كتب (المعلقة الكورونية) دون أن يدري أنّه سيكون أحد ضحاياها، تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من العلم والمعرفة في الأدب والنقد العربي والأجنبي والشعر، وثقة مطلقة في عمله الطويل بالتدقيق اللغوي في الصحافة المكتوبة.

مدوّنةُ وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 10 حزيران 2020 مع "يوسف الصدقة" ابن المدرس الشاعر الراحل "خالد جميل الصدقة" ليتحدث عن والده قائلاً: «كان أبي مثالاً للصبر والجد والتعلم المستمر، ولم ير عيباً في أن يستمر الإنسان بالتعلم حتى إن أصبح معلماً للناس، وهذا ما يميزه عن غيره.

عندما افتتحت "الجريدة" أبوابها منذ ثلاثة عشر عاماً، كنت قد عرفته قبلها بفترة يسيرة، فرأيت فيه زميلاً محترماً دمث الأخلاق واسع الاطلاع، وعندما عملنا تحت لوائها ازدادت علاقتنا متانة، فرأيت إنساناً نقي القلب لا يحمل غلاً لأحد، ومن أي باب تدخل إلى شخصيته عند الكتابة عنه، فلن تجد التناقض إلى كلامك سبيلاً، فتحدث عنه كما شئت، كان عميقاً في نظرته للحياة إلى درجة جعلته ينظر إليها على أنها لا شيء، فمهما طالت ستنتهي، لذا أفرغ قلبه من الحديث عن الآخرين والانشغال بالناس، واستأنس بكتبه وشعره وبحثه عن الحكمة في داخل نفسه قبل أن يبحث عنها في تجارب الآخرين وكتاباته

حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة "دمشق" عام 1980، وسافر إلى "السعودية" للعمل برفقة عمي، ومن هناك سافر نحو "بريطانيا" لتعلم اللغة الإنكليزية، ثم عاد إلى "السعودية" للعمل في مطبعة "العبيكان"، وبعد خمس سنوات، عاد إلى وطنه ليعمل بتدريس اللغة العربية حتى عام 1993، وفي العام الأخير سافر إلى "الكويت" معلماً حتى عام 2001 قبل أن يترك مهنة التعليم ويسلك طريق التدقيق اللغوي، حيث التحق بمجلة "المنصة"، ثم في عام 2007 التحق بجريدة "الجريدة" منذ أول عدد لها رئيساً لقسم التصحيح، ثم تمت ترقيته نائباً لرئيس قسم الدسك، واستمر فيها حتى وفاته».

الراحل "خالد الصدقة" بجوار ابنه يوسف

وتحدث عن أهم مؤلفاته قائلاً: «لقد كان كاتباً وشاعراً، وله مؤلفات أهمها معجم "لآلئ الأمثال والحكم المقارنة" الذي يأتي بمثل إنكليزي وأصله العربي إن وجد، أو ما يشبهه من القرآن الكريم والسنة النبوية أو الأدب العربي، وتم إصداره عام 2010 بعد أن استغرق عشر سنوات من البحث والاطلاع في أمهات الكتب العربية والإنكليزية، وقد ترجم لشكسبير الكثير من القصائد و(السونيتات)؛ وهو شعر يلقى بصيغة الغناء، واختار من الشعراء المجهولين أو الذين لم يعرف شعرهم إلا بعد وفاتهم، لشعوره أن حقهم في الشهرة ضعيف ومنقوص أمثال "أبو الحسن علي بن محمد بن فهد"، "نصر بن أحمد البصري"، "إيميلي ديكنسون"، و"وليم ييتس"، كما نشر أبحاثاً وقصائد في عدد من المجلات والصحف داخل "الكويت" وخارجها، بجانب ديوان شعر غير مطبوع.

وكانت آخر أعماله قصيدة عن "كورونا" التي وزنها على ذات قصيدة "عمرو بن كلثوم"، وأدّاها مذيعو الإذاعات في أغلب الدول العربية، حيث جاء مطلعها:

غلاف معجم "لآلئ الأمثال والحكم المقارنة"

ألا هُـــبِّــي بــكـمّـامٍ يـقـيـنـا

رذاذَ الـعـاطـسينَ وعَـقِّـمـينا

إحدى كتاباته لأمثال شكسبيرية ونظائرها العربية

فـنحن اليومَ في قفصٍ كبيرٍ

وكـورونـا يـبـثُّ الـرعـبَ فـينا

إذا ما قد عطسنا دون قصدٍ

تـلاحـقُـنا الـعـيـونُ وتـزدريـنـا

وإنْ سعلَ الزميلُ ولو مُزاحاً

تـفـرَّقـنـا شــمــالاً أو يـمـيـنـا

وبـــاءٌ حـاصـرَ الـدنـيا جـمـيعاً

وفـــيـــروسٌ أذلَّ الـعـالـمـيـنا».

"لافي الشمري" رئيس قسم الثقافة والفنون في جريدة "الجريدة" الكويتية؛ تحدث عن الراحل بالقول: «كان الزميل "خالد الصدقة" مثالاً للالتزام والتفاني في العمل، إضافة إلى أنه احتوى في نفسه النبل والكرم والشهامة، عمل في أكثر من مطبوعة، كما أنه انخرط في حقل التعليم في "سورية"، و"الكويت".

على الصعيد الإبداعي، كان شاعراً باحثاً مهتماً بالدراسات المقارنة وحوار الحضارات، وله من الإصدارات معجم "لآلئ الأمثال والحكم المقارنة" الذي تضمن كنزاً نفيساً من درر النثر وجواهر الشعر المختارة من عشرات المراجع الإنكليزية القديمة والحديثة، ومن أربعمئة وخمسين مرجعاً عربياً، كما ترجم قصائد لـ"شكسبير" وغيره.

واشتهر بتقديم نتاج أدبي رصين يمزج بين الدقة في اللغة والسلاسة في إيصال المعلومة؛ عبر جمل مقتضبة ومفردات جزلة، كما اتسم بالجدية والحزم في أداء عمله، وإن كانت هناك مساحة فكاهية في حياته كان يسعى إلى ترجمتها عبر بعض القصائد الطريفة.

وكانت له اهتمامات أدبية وبحثية قيمة، ومساهمات رائعة بترجمة بعض القصائد إلى اللغة العربية».

وعن (المعلقة الكورونية) تابع: «كان الراحل "خالد الصدقة" قد تنبأ برحيله، فقد نشر قصيدته قبل وفاته بأربعين يوماً، ورأى فيها أن فيروس "كورونا" مارد خفي يبث الرعب والخوف في أوصال سكان العالم المحاصرين في قفص كبير، لا يملكون من أمرهم شيئاً ولا صوت لهم يقهر صوت هذا الوباء، ويظهر مدى الصدق العميق الذي كان يسكن جوارحه وحنينه لوطنه "سورية"، فلم يكن صعباً عليه انتقاء معلقة "عمرو بن كلثوم" التي ذكر فيها مدينتي "دمشق"؛ و"الأندرين"، فكتب الراحل على وزنها وقافيتها معلقته الكورونية، ويذهب لبلده عبر القصيدة ويتوق إليها بالواقع. لقد توفي تاركاً إرثاً أدبياً زاخراً، وسيرة عطرة تفوح نسائمها في سماء محبيه».

"ياسر السعدي" سكرتير تحرير جريدة "الجريدة"، وزميل مقرب للراحل "الصدقة"، قال: «عندما افتتحت "الجريدة" أبوابها منذ ثلاثة عشر عاماً، كنت قد عرفته قبلها بفترة يسيرة، فرأيت فيه زميلاً محترماً دمث الأخلاق واسع الاطلاع، وعندما عملنا تحت لوائها ازدادت علاقتنا متانة، فرأيت إنساناً نقي القلب لا يحمل غلاً لأحد، ومن أي باب تدخل إلى شخصيته عند الكتابة عنه، فلن تجد التناقض إلى كلامك سبيلاً، فتحدث عنه كما شئت، كان عميقاً في نظرته للحياة إلى درجة جعلته ينظر إليها على أنها لا شيء، فمهما طالت ستنتهي، لذا أفرغ قلبه من الحديث عن الآخرين والانشغال بالناس، واستأنس بكتبه وشعره وبحثه عن الحكمة في داخل نفسه قبل أن يبحث عنها في تجارب الآخرين وكتاباته».

وأضاف: «عند انطلاق "الجريدة" عُهد إليه اختيار أعضاء قسم التصحيح، فكان هذا التعمق هو الميزان الذي تم به اختيار زملائه من أعضاء القسم، فأسس قسماً ناجحاً، وعندما قررت "الجريدة" ضم قسمي التصحيح والدسك، تشرفت وقتئذ بأن أتولى رئاسة هذا القسم المشترك، وتم اختيار "الصدقة" نائباً لرئيس القسم.

كان الراحل شاعراً نادراً وباحثاً متمكناً وقارئاً نهماً، وما أكثر ما كان يستحضر أبياتاً، ويرتجل أخرى في مناسبات عديدة جمعتنا معاً. أما عن كلماته وتعليقاته فكان إذا أورد تعليقاً عفوَ الخاطر تعجبتَ من أي معين للعبقرية يأتيك به، إذ يأتيك على عجل بتعليق يبدو كأنه قد فكر فيه أياماً وأسابيع».

الجدير بالذكر أنّ الشاعر الراحل "خالد الصدقة" ولد في منطقة "النبك" بريف دمشق عام 1956، وتوفي في "الكويت" بشهر أيار عام 2020 عن عمر يناهز أربعة وستين عاماً، وهو متزوج ولديه 4 شباب وفتاة.