جال في أروقة القانون فنال الماجستير والدكتوراه، وجعل منه منبراً يطلُّ من خلاله على طلبة كلية الحقوق لينقل لهم صورته الأمثل، وفي الجانب الآخر من شخصيته كان الشاعر غزير العاطفة، مطوّع القلم كما يتناسب مع زمان الكلمة ومكانها.

مدونةُ وطن "eSyria" التقت وبتاريخ 20 تموز 2019 الدكتور "عصام التكروري" ليحدّثنا بالقول: «درست الحقوق في جامعة "دمشق"، وبعد تخرجي تمّ إيفادي إلى "فرنسا" حيث حصلت على درجة الدكتوراه في القانون العام عام 2010 مسبوقةً بثلاث درجات ماجستير بثلاثة اختصاصات مختلفة، بدأت التدريس في كلية الحقوق في عام 2012، حيث أقوم بتدريس مقرر الحقوق والحريات لطلاب السنة الأولى إضافة إلى مادة حول القانون الدستوري باللغة الإنكليزية، ومادة الحقوق والحريات باللغة الفرنسية، والتدريس بالنسبة لي شغف حقيقي، فالمدّرس يساهم في أنبل مهمة بالعالم وهي صياغة العقول التي تتطلب من القائمين عليها أن يكونوا قدوةً لطلابهم، بعيداً عن كل ما له علاقة بالنخاسة التي تحضّ عليها مقولة "من علمني حرفاً كنت له عبداً"، فأنا أؤمن بمقولة "من علمني حرفاً كنت له ندّاً" لأنّ العبيد والنخاس يستحيل عليهم أن ينتجوا العلم النبيل، العلم الذي يُطهّر الأفكار بتعريضها لنار النقد ورياح الحوار، ومنْ ثمّ مبضع القانون، لا يمكن للعلم إلا أن يكون حالةَ رُقيّ لذلك يجب أن تكون العمليةُ التدريسيةُ بعيدةً عن التلقين، وأشبه عقل الإنسان ببرميل البارود المعرفي، حيث أرى أنّ مهمة المحاضر هي توليد الشرارة لتفجير هذا البرميل، وفشله في ذلك قد يعود إلى أحد أمرين: إما أنّ الشرارة ليست قوية، أو أنّ البرميل فارغٌ، أو مصابٌ بالرطوبة».

السبب يعود إلى حالة الاستسهال بالتعاطي مع البرامج السياسية وتواضع الإعداد والتقديم، طبعاً أنا ما أزال مثابراً على التواصل الإعلامي المرئي والمسموع إذا كان لديّ ما أقوله في موضوع مفصلي، وأؤكد أنّه حتى أستطيع أن أتكلم عشرَ دقائق على الهواء فأنا بحاجةٍ للقراءة مدّة خمس ساعات، و ربّما أكثر فالكلمة مسؤولية

وعن أهمية شخصية المحاضر في تلقين المتلقي للمعلومة قال: «جانب الشخصية مهم لكن الأهم بتقديري هو علاقة المرء بعقله و لعلّ أفضل من وصّف هذه العلاقة كان الفيلسوف الفرنسي "أوغست بلانكي" الذي اعتقد بأنّه لا يمكن للمعدة أن تتحمل الإمساك عن الطعام، أما الذهن فيتعود بكل سهولة على الإمساك عن المعرفة، فالذهن يعتاد على الصيام المعرفي حتى يصل إلى الموت الفكري دون أن يشعر حامله بذلك، وبمعنى آخر فإن الطبيعة النبيلة للذهن تجعله يترفّع عن استجداء المعرفة إذا منعه حامله من الوصول إليها، عندها يختار الذهن الانتحار احتجاجاً على الجهل الذي تمّ إغراقه به عن عمد أو عن إهمال، برأيي إنّ الغياب الجمعي للذهن العارف يدل على أنّ المجتمع قد سقط ضحية جهله، والجهل هنا لا يعني فقط انعدام المعرفة بل يعني أيضاً (تثمير) المعرفة الغثّة، و تعويمها على أنّها النموذج الفكري الأولى بالرعاية، هذا الأمر بتنا نراه بشكل فاقع في برامج "الكاش" و"الطبخ" و"الأصفار"، كمية المتابعين لهذه البرامج أملاً بالربح أو رغبة في تقطيع الوقت».

الدكتور "عصام التكروري" بعد محاضرة له في معهد الإدارة العامة حول القانون

وحول الجانب الشعري الذي يعدّه أولوية في حياته يتابع بالقول: «"أوكتافيو باث" كان على قناعة في أنّ أساس القصيدة هو الأغنية، وفي الحقيقة الشعر في حياتي بدأ مع "أم كلثوم" فوالدتي كانت تواظب على سماع أغنياتها كل مساء، وكانت تهتم بأن أشاركها الاستماع وصولاً إلى أن أحفظ الأغنية كاملة، هذا الأمر كان بالنسبة لي أول احتكاك مع الكلمة الحيّة، ومع الصورة الشعريّة النقيّة القائمة على الدهشة والإيجاز، كل هذا ساهم في صقل حواسي بشكل جعلها قادرةً على التقاط الصور الشعرية الصحيحة، فالاستماع إلى الموسيقا علمني كيف أضبط موسيقا القصيدة بشكل عفوي، أو مقصود، والحروف هي أكثر من مجرد أدوات لتركيب الكلمات، إنّها علامات موسيقية من نوع فريد، و بالتالي فإنّ توزيعها في الكلمة الواحدة، وتوزيع الكلمات على جسم القصيدة هو حالة تطريز تتشابك فيها العاطفة مع الموسيقا، إنّها ببساطة حالة شغف».

وعن مساهمة عناصر أخرى في تكوين الإبداع الشعري أكمل بالقول: «لا يمكن أن نغفل دور الفلسفة في إنتاج الشعر المدهش، فمن أبرز ما يتميز به الزمن الشعري العربي الحالي هو ندرة ظاهرة (الشاعر الفيلسوف) على غرار ما عرفها العصر العباسي في ذروته حيث كانت الحركة الفلسفية نشطةً، وشهدنا ظهور "أبو تمام"، و"أبو العلاء المعري"، وغيرهم، هؤلاء الشعراء جاؤوا في زمن "ابن رشد"، و"ابن خلدون"، والكثير من الفلاسفة المسلمين، وساعدهم تشبعهم بالفلسفة على إعادة الطابع الرؤيوي للقصيدة العربية قبل أن يتمّ عدّ قسم منهم من الملاحدة على يدّ فقهاء الظلام الذين حاربوا الشعر والفلسفة معاً، فالأثر القوي للفلسفة في الشعر يظهر جلياً أيضاً في بنية القصيدة الغربية، فالتجارب الشعرية لكلّ من "سان جون بيرس"، "مالارميه" وغيرهم، لم تكن منفصلةً عن الحركات الفكرية والفلسفية التي عرفتها "أوروبا" ولا سيّما في ظلّ ظهور التيار الوجودي، والتيارات العبثية».

الدكتور "عصام التكروري" في أمسية شعرية

ويكمل: «بالحديث عن أعمالي الشعرية فقد صدرت لي مجموعتان شعريتان الأولى "كلام يعنيني"، والثانية حملت اسم "شهوة تجرني إلى حتفي"، محتواهما يتناول الحبّ بكلّ الأشكال التي يمكن أن يتجلى فيها (الخيبة، الحرمان، الحنان، الوطن، التاريخ) وفي الأمسيات الشعرية التي أشارك فيها من حين إلى آخر أكون سعيداً حينما يُطلب مني أن ألقي قصائد بعينها، وغالباً ما تكون "بورتريه مغمس بالوجع" أو "سورفرينيا"، أو "نورس أبيض في سماء رمادية"، وفي الواقع، شهدنا خلال سنوات الحرب على "سورية" ظهور تيار جماهيري جميل يرى أصحابه في الشعر أحد سُبل الخلاص، كما شهدنا ظاهرة انتقال الشعر من الرعاية المؤسساتية إلى الرعاية الجماهيرية التي رسّختها المنتديات غير الرسمية، ما ساهم في جعل الشعر أكثر انتشاراً بين المهتمين على الرغم من التفاوت الحاصل في مستويات الشعر و الشعراء».

وعن حضوره في ميدان الإعلام يقول: «بدايتي كانت مع الصحافة حيث بدأت الكتابة فيها منذ عام 2007، أحبّ تجربتي في "السفير" و في "الوطن" السورية، إضافةً إلى تجربتي مع جريدة "الأيام" السورية وموقع "صاحبة الجلالة"، وفي الإعلام المسموع كان لي برنامج "المنبر" السوريّ على إذاعة "نينار" والذي كان من إعدادي و تقديمي في الفترة ما بين 2014 و2015، إضافةً إلى ظهوري كضيفٍ على بعض القنوات التلفزيونية للحديث في الشأن السياسي الدولي و المحليّ».

من برنامجه على إذاعة "نينار"

وحول أسباب قلّة مشاركاته التلفزيونية: «السبب يعود إلى حالة الاستسهال بالتعاطي مع البرامج السياسية وتواضع الإعداد والتقديم، طبعاً أنا ما أزال مثابراً على التواصل الإعلامي المرئي والمسموع إذا كان لديّ ما أقوله في موضوع مفصلي، وأؤكد أنّه حتى أستطيع أن أتكلم عشرَ دقائق على الهواء فأنا بحاجةٍ للقراءة مدّة خمس ساعات، و ربّما أكثر فالكلمة مسؤولية».

وعن إمكانية أن يكون له برنامجه الخاص على الإعلام المرئي يقول: «أنا أفضل أن أكون مُعداً لأنّ الناس بشكل عام تعدّ الانتقال من العمل كأستاذ جامعي إلى مذيع أمراً غير مستحبٍ، سبب هذه النظرة يعود ـ ربما ـ إلى فكرة الاستسهال الذي تحدثت عنه آنفاً مقروناً بالفوضى في الوسط الإعلامي في أحيان أخرى، كل هذا يجعل الأكاديمي متخوفاً من أن تلتصق به هذه صفة (المذيع) علماً بأنّه في الغرب يُعدّ انتقال الأكاديمي للعمل في مجال الإعلام نقلةً نوعيةً في حياته المهنية لكون أغلب المؤسسات الإعلامية هناك على قدرٍ كبيرٍ من الحرفية و التميّز، فمهما بلغ الشخص من الوسامة والكاريزما فإنّ التدريب المستمر هو دائماً سرُّ النجاح».

الكاتب "سامر محمد اسماعيل" يقول عنه: «ينتمي "عصام التكروري" لجيلٍ من المثقفين الذين لم يعد لهم وجودٌ في الساحة الثقافية السورية لأنّه الحقوقي ورجل القانون الدولي والسياسي والمثقف والمفكر والشاعر والكاتب الصحفي، خبراتُ هذا الرجل الكثيفة والمهمة والأكاديمية تجعله في قلب نقاش جديّ وحار وقلق، إنّه يثير الأسئلة المعرفية والوجودية بمسؤولية وقدرة عالية على الحوار مع الخصوم قبل الأصدقاء بتروٍ، وحكمة، ودون تشنج، أو استعراض للتفوق، وإذا ما كتب مقالاً أو رسم قصيدة جديدة فهو الشاعر العذب الصادم بصوره وجرأته وقدرته على إبداع تكوينات طليقة وحرّة، فثقافته المنفتحة على الجميع -وهو الذي عاش بين "دمشق" و"باريس" ردحاً من الزمن- جعلته مطلّاً بقوة على شتى تيارات الفكر والشعر والفنون، باختصار "عصام التكروري" شاعر لا يرد».

ومن قصائد الدكتور "عصام التكروري" اخترنا لكم هذا المقتطف:

«عندما تنتهي الحرب

سأدعوكِ إلى غرفتي...

في تلكَ الظهيرة

تحت سماءٍ رماديّة

سأنزعُ عنكِ منديلَ الحرير

بقلبٍ يفيضُ حناناً

سأمررهُ على وجهكِ الذاهب إلى الينابيع

استنشقه بملء رئتيّ...

بعدَ حين..

سأحملكِ بين ذراعي

و على أريكةٍ قربَ النافذة

سأمددكِ

هامساً بأذنك الغضة:

"انظري ... نورسٌ أبيض في سماءٍ رمادية.."».

يذكر أنّ الدكتور "عصام التكروري" من مواليد محافظة "دمشق"، وهو رئيس قسم القانون العام في كلية الحقوق جامعة "دمشق"، وعضو مؤسس في التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب، وعضو لجنة إعداد قانون التظاهر السلمي وقانون مكافحة الإرهاب، وحلّ ضيفاً على العديد من وسائل الإعلام العربية والمحلية للتعليق على أهم الأحداث السياسية والقانونية.