تجاوز "نقولا بشارة" السبعين من عمره ومازال يتمتع بروح ونشاط الشباب، يتقن ببراعة مهنة نقل الدم، وحقّق خلال عمله تغيّراً جذرياً بالأساليب المتبعة بنقله، إلى جانب اهتماماته الأدبية والرياضية وزراعة الأرض.

مدونة وطن "eSyria" التقته بمنزله في منطقة "العباسيين" بـ"دمشق" بتاريخ 24 تشرين الأول 2016، وعن مسيرة حياته تحدّث قائلاً: «نشأت في "حينة" القرية الزراعية التي تتربع فوق سفوح جبل الشيخ وتتبع إلى منطقة "قطنا"، درست المرحلة الابتدائية في قريتي، وفي مسابقة الصف السادس آنذاك نجحت في الفحص الذي كان مقرراً لنا بمنطقة "قطنا"، وكان عدد المتقدمين 16 طالباً من "حينة"، و4 طلاب من "مغر المير"، وكنت الوحيد الذي نجح من قريتي، إضافة إلى آخر من "مغر المير"، أكملت دراستي الإعدادية في "قطنا"، ومنها انتقلت إلى إعدادية "السابعة" بـ"دمشق"، وبعد حصولي على الشهادة الثانوية من ثانوية "أمية" التحقت بخدمة العلم، وبعد الانتهاء التحقت بالمعهد الصحي لإكمال تحصيلي العلمي، عملت بعد التخرج في مجال التحاليل الطبية ونقل الدم لمدة 40 عاماً، ومازلت فيه حتى اليوم».

تعرّفت خلال مدة عملي الطويلة إلى مجموعات كثيرة من الناس، وكنت أتعامل مع الجميع بأسلوب جيد وبكل تقدير واحترام؛ وهو ما جعلهم يبادلونني ذلك بالحب والاحترام والتقدير؛ وهذا يزيد من سعادتي

ويضيف عن أهم الإنجازات التي قدمها لعمله خلال حياته: «بعد تخرّجي عام 1974 عُيّنت بمستشفى "دوما" الجراحي، وما أذكره أنني عندما دخلت المخبر وجدت كل الدم الموجود بالبراد من زمرة (+O) المهيّأ للنقل إلى المرضى، وعند سؤالي عن توفر الدم كانت الإجابة نعطي (+O) معطي عاماً و(AB) آخذ عاماً، وما أذكره أنه كان من ضمن ملاحظات أستاذنا بالمعهد الدكتور "محمد بديع حمودة" أستاذ أمراض الدم عدم العمل بهذا الرأي، وأنه يجب أن يعطى المريض حسب زمرته الدموية بعد إجراء التصالب، وتقديم مشتقات الدم حسب "الكريات الحمراء، بلازما، صفيحات"، وعندما سألت الأطباء لماذا لم نأتِ بالزمر الدموية المناسبة لكل مريض؟ أجابوا: لأننا نعمل بمبدأ (المعطي والآخذ العام)، فقررت باعتباري المخبري الوحيد أن ألغي هذه الفكرة، وأن يعطى الدم للمريض حسب زمرته، وكان ذلك على مسؤوليتي الخاصة، تم العمل بنجاح، وكانت هذه الفكرة نقلة نوعية للمستشفى.

في حديقته المنزلية

ثم انتقلت إلى مشفى "الزهراوي" بـ"دمشق"، ولم يكن فيها بنك دم بالمعنى الصحيح، طلبت عندها من المدير تأمين المواد اللازمة من "مجهر، ومثقلات، وأنابيب، وأدوات مخبرية"، وبدأ العمل بنهج وأسلوب جديد، فكانت نقلة نوعية 1976، بعدها تم نقلي وبناءً على طلب من وزارة الصحة للعمل بالمستشفيات المركزية نتيجة المبادرة التي أسّستها بمستشفى "دوما"، كما عملت ببنك الدم المركزي، وكانت المبادرة التي قدمتها تتلخص بأنه كان عندما تصل (مثفلات الهيماتوكريت) "آلة لفحص الدم" يرافق أنابيب الاختبار مادة معجون بعدد معين تستخدم لإغلاق أنابيب الدم، وعند انتهائها كان المخبريون يلجؤون إلى طريقة اللهب بأنابيب الغاز لإغلاق أنابيب الاختبار، ومبادرتي تلخصت بأنني استخدمت معجون الأطفال لإغلاق الأنابيب ونجحت الفكرة، وعند عرضها على مدير بنك الدم آنذاك رحّب بها، ومازالت المادة تستخدم للأنابيب المخبرية حتى الآن».

ويضيف عما حملت ذاكرته خلال مدة التدريب: «عملت في مستشفى "الزهراوي"، وكان آنذاك مخبري مسؤول عن "المثفلات"، التي كانت تتعطل بوجه دائم لعدم وضع الأنابيب داخلها بالشكل الصحيح؛ وهو ما يؤدي إلى تعطيلها أكثر من مرّة واستبدالها بمثفلة جديدة، فأخبرته بوضع الأنابيب بالشكل الصحيح، وبذلك ساهمت بعدم تعطيل المثفلة واستمرار عملها بطريقة صحيحة».

صورة قديمة مع زملائه بمستشفى دوما

خلال مدة عمله الطويلة عاش كثيراً من المواقف، عنها يضيف: «تعرّضت خلال عملي إلى العديد من المواقف السلبية حين أشاهد مريضاً لا حول له ولا قوة ولا أستطيع أن أقدّم له شيئاً، وهذا ما كان يؤسفني ويزعجني جداً، أما المواقف الإيجابية، فهي كثيرة؛ وهي إسعاف المرضى والمصابين بأسرع ما يمكن، وتقديم كل ما يلزم لهم من الدم ومشتقاته بطريقة جيدة جداً بشهادة كل من تعامل معي من أطباء وسواهم. وفي أحد المواقف جاءتني مريضة تشكو التحسّس أثناء نقل الدم، وبعد إجراء التصالب "تلاؤم الدم" تم فتح وريد بالسيروم الملحي، ومجرد أن بدأت إعطاءها الأمبولة الخاصة لمنع التحسّس بدأت تتحسّن، عندها أوقفت الحقن وانتظرت قليلاً، ثم نقلت لها الدم بأمان وسلام».

وعن علاقته بشرائح الناس المتعددة، يقول: «تعرّفت خلال مدة عملي الطويلة إلى مجموعات كثيرة من الناس، وكنت أتعامل مع الجميع بأسلوب جيد وبكل تقدير واحترام؛ وهو ما جعلهم يبادلونني ذلك بالحب والاحترام والتقدير؛ وهذا يزيد من سعادتي».

المخبري "سراء درويش"

لم يقتصر اهتمامه على نقل الدم، بل هو من الأشخاص المهتمين بالزراعة، وعن ذلك يحدّثنا: «أعرف الكثير عن الأمور الزراعية بحكم نشأتي في بيئة ريفية، وكنتُ أساهم إلى جانب أهلي بزراعة جميع الأشجار تقريباً، والحبوب وخاصة اليانسون، ومازلت أتابع ممارسة الزراعة، لكن ضمن حديقة منزلي التي زرعتها بأشجار العنب والليمون والمشمش الحموي، كذلك الورد الجوري والغاردينيا والغار، وأتابع هذه الزراعات يومياً من سقاية وغيرها، وقد أمّنت لنا حديقتنا المنزلية بعض ما نحتاج إليه من الخضار والفواكه، إضافة إلى منظرها الخلّاب الذي يعطينا راحة نفسية لنا وللجوار، أشجّع كل من يملك مساحة يمكن أن يستثمرها بالزراعة، يكفي أنه يأكل مما يزرع معتمداً على أسمدة وسقاية طبيعية، إضافة إلى الطعم المميز، وتوفير جزء من المصروف للعائلة، وأشجّعه أن يعتني بهذه الحديقة ويزرع ما يناسبه ليعود ذلك بالجمال على الطبيعة».

لديه هوايات متعددة، وعنها أضاف: «إلى جانب عملي أنا من المهتمين بمطالعة الكتب بكافة اختصاصاتها العلمية والأدبية، وأهم من قرأت لهم:"جبران خليل جبران، والمتنبي، وإيليا أبو ماضي، وجرجي زيدان"، كذلك من هواياتي ركوب الخيل، حيث كنّا نملك فرساً تنتمي إلى عائلة "الست الكحلة"، شاركت بها في سباقات على مستوى القرية، وكانت الأولى على الدوام، كما أنني أمتلك قدرة التمييز بين الخيل الأصيل والمهجّن، مارست هواية صيد العصافير بكل أنواعها، إضافة إلى الحجل أحياناً».

عنه قال المخبريّ "سراء درويش": «تعرّفت إليه منذ 25 سنة، وهو أول شخص التقيته عندما عملت بمخبر المستشفى الفرنسي، آنذاك استقبلني وساعدني واحتضنني بعد تخرّجي في المعهد الصحي، ومن ذلك الوقت مازلت أتعلم منه الإخلاص بالعمل، ومعاملة المرضى بإنسانية، وهو شخص محترف بمجال نقل الدم، لا يمكن أن تسجل له أخطاء خلال مدة عمله الطويلة، شخصية معروفة في الوسط الطبي والاجتماعي، لا يتوانى عن مساعدة الأشخاص المحتاجين، لا ينظر إلى العمل بمنظور مادي، لكنه يعمل بحكمة أن الله يكافئ الإنسان على عمله، يمتاز بصدقه وإخلاصه ليس للناس فقط بل إلى مهنته».

وأضاف جاره "موسى بشارة": «في مجال الزراعة هو شخص يتقن العمل بها لأنه ورثها من بيئته وأبيه، استطاع الاستفادة من خبرته بها بإنشاء زراعات في حديقة منزله التي تحتوي العديد من الخضراوات والأشجار المثمرة. أمّا اجتماعياً، فهو يملك روح النكتة الناعمة، وعلاقاته مميزة مع الجميع، لا يمكن لأحد أن يلتقيه إلا ويحبّه».

يذكر أن "نقولا بشارة" من مواليد 1946، متزوج من "هالة بشارة" تربوية، ولديه شابان "يوسف، وجورج"؛ وهما مخبريّان، وشابة "ثناء" مهندسة، تم تكريمه بدرع تقدير من مديرية صحّة "دمشق" 2007 عربون محبة وتقديراً لجهوده وتفانيه في العمل لما فيه خير الوطن.