حبه للرسم جعله يبدع بمجال العمارة ويشارك في تشييد كبرى المرافق الحكومية والخاصة، لكن شغفه ببلاد الشام وحضارتها دفعه إلى الغوص في تاريخها لينتج عدة مؤلفات أصبحت مرجعاً للمهتمين والمثقفين.

الفن كالطائر المهاجر أينما يحل فهو وطنه؛ لا يحمل جواز سفر، ولا تكتنز العنصرية معانيه السامية؛ هذا ما بدأ به الدكتور المهندس "جهاد صالح" حديثة لمدونة وطن "eSyria" التي التقته بتاريخ 14 حزيران 2016، ليحدثنا قائلاً: «منذ طفولتي شاء القدر أن أَجول على معظم المناطق السورية، وأختزن في ذاكرتي جمال عمرانها وحضارتها؛ بسبب عمل والدي ضمن صفوف الجيش الذي كان يتطلب التنقل المستمر، وكان لمحافظتي "السويداء"، و"دمشق" النصيب الأكبر من مراحل حياتي؛ درست في مدارسهما، وكنت من الطلاب الأوائل إلا أنني تميزت بكتابة مواضيع الإنشاء باللغة العربية وكذلك الإنكليزية، إضافة إلى الرياضة؛ فكنت لاعباً في فريق أول كرة يد، وفريق ثاني كرة سلة في نادي "قاسيون" الرياضي. وبعد نيل الشهادة الثانوية أرسلني والدي لدراسة الطب في "فرنسا"؛ كان ذلك عام 1969، لكنني اخترت هندسة "العمارة" لكونها تنطوي على الكثير من الرسم؛ وهو ما يتوافق مع موهبتي منذ الطفولة. وعلى الرغم من التحديات التي تمثلت بالبعد عن الأهل واللغة تمكنت من تحقيق النجاح والتميز بتقديم مشاريعي؛ كان ذلك باعتراف كل من المدرّسين الفرنسيين، والسوريين مثل د. "نورس الدقر"، د. "رئيف مهنا"، وكنت الطالب السوري الوحيد الذي يحضرون تقديم مشاريعه، وبعد نيل شهادة دبلوم بهندسة العمارة عدت إلى "سورية"، لأعود مرة ثانية بعد سنوات عدة إلى "فرنسا" وأحصل على شهادة الدكتوراه في العمارة».

"جهاد صالح" رجل حالم يعمل بهدوء؛ فقبل أن يكون فناناً مع أنه مهندس، والعمل الهندسي عادةً ينبع من الفن؛ إبداعه بالعمارة ولّد لديه حالة تصويرية نحو الأشياء بطريقة البورتريه؛ فالوجوه يرسمها كما يراها هو لا كما هي بالواقع؛ وهذا ما لمسناه من خلال معارضه. الحالة الفنية لديه متميزة استطاع من خلالها أن يحقق نقلة متميزة بفن البورترية في الحركة التشكيلية

وعن عمله بمجال العمارة يضيف: «حبي للعمارة جعلني أبحث عن المجال الذي أستطيع تنفيذه على أرض الواقع؛ لجأت إلى العمل الميداني الإنشائي في مؤسسة الإسكان العسكرية؛ عملت لمدة 30 عاماً مدير مشاريع عرف عني خلالها أن المشروع الذي أكلف به لا يستغرق أكثر من أسبوعين لتسليمه مع مراعاة الجودة بالعمل والتكلفة الاقتصادية؛ من أهم المشاريع التي قمت بتنفيذها "مطار دمشق الدولي، وبرج الثورة، إضافة إلى أبراج الميدان، وعدد من الجوامع"، وكنت صاحب مشروع البيوت الاقتصادية المبنية من الطين من دون استعمال الإسمنت والحديد؛ حيث يتم عزلها لتصبح مقاومة للعوامل الخارجية وقد نفذ المشروع، ويعدّ من أهم المشاريع لكونه ذا جدوى اقتصادية عالية، إضافة إلى توفيره بالموارد الطبيعية».

الأستاذ أنور الرحبي

وعن تجربته في مجال التأليف يتابع: «بعد عمل دام 37 عاماً في مجال الإنشاء تحولت إلى منحى آخر بعيد عن مجال دراستي، لكنه كان يستهويني منذ الصغر؛ وهو معرفة الأشكال كالدوائر والمربعات وتأثيرها إن كانت جمالية أم روحية، متسائلاً هل نرسم زخارف للناحية الجمالية أم هناك جمال روحاني؟ كل ذلك دفع بي إلى الكتابة، ومنذ البداية وضعت عنواناً رئيساً لكتبي وهو: "الحضارات التي مرت على بلاد الشام"، فأصبحت مكتبة الأسد ملاذي الأوحد أنهل منها ما يعادل 400 صفحة يومياً إلى أن توصلت إلى كمّ من المعلومات مكنني من تأليف 7 كتب تدور حول الحضارات في بلاد الشام ووضعتها بين أيدي المثقفين والمهتمين، ومازلت متابعاً في ذات المجال».

لأنني أؤمن أنه لا أدب بلا فن ولا فن بلا أدب؛ بدأت تنمية هوايتي بالرسم؛ فمنذ أن كنت على مقاعد الدراسة استهوتني فكرة رسم وجوه زملائي، كما كانت تجربة الفنان "نذير إسماعيل" حافزاً ودافعاً أعادني إلى الرسم؛ بدأت نقل لوحات لفنانين عالميين لأكتسب المران، وأدخل باب الفن؛ لوحاتي هي وجوه تعبيرية بورتريه تعبرعن الإنسان في كل زمان ومكان وبكافة حالاته، كما أن طريقتي بالرسم تشبه طريقتي بالهندسة؛ فاللوحة أبنيها كالمنشأة أوازنها بالألوان والأحجام، وإلى اليوم تمكنت من إقامة خمسة معارض؛ معرضان جماعيان، وثلاثة معارض فردية».

بعض مؤلفاته حول الحضارات

الفنان التشكيلي "بشير بشير" يحدثنا عن تجربته الفنية قائلاً: «"جهاد صالح" رجل حالم يعمل بهدوء؛ فقبل أن يكون فناناً مع أنه مهندس، والعمل الهندسي عادةً ينبع من الفن؛ إبداعه بالعمارة ولّد لديه حالة تصويرية نحو الأشياء بطريقة البورتريه؛ فالوجوه يرسمها كما يراها هو لا كما هي بالواقع؛ وهذا ما لمسناه من خلال معارضه. الحالة الفنية لديه متميزة استطاع من خلالها أن يحقق نقلة متميزة بفن البورترية في الحركة التشكيلية».

بدوره الفنان والكاتب "أنور الرحبي" يحدثنا عن تجربته الأدبية والفنية قائلاً: «الدكتور "جهاد" يكاد أن يكون وقع الحركة التأليفية؛ شَكل مساحة تبدو ملأى بالأحداث من خلال تجربته والتصاقها بالواقع فيما يتعلق بفنه استطاع أن يضيف نمذجة جديدة لما يسمى البورتريه قدمها بأشكال خلط بين الواقع ومخيلته، كما خلط العاطفة بالمستقبل ولغة التعبير؛ وهذا منحى جديد بالعمل.

كمؤلف وكاتب أقول إن "جهاد صالح" وليد عائلة ملأى بالبحث والسبر الفوري للأشياء. ما يميزه عن غيره هو التفكير في تقديم المعروض بشكل أو بآخر وهذه سمات؛ لكن المحطة الأغنى بحياته ما جسده بمجموعة من الكتب التي تعنى بالعمارة العربية والتواريخ من العموريين وصولاً إلى بلاد الشام والرافدين، وآخرها تأثير البيئة، حيث استطاع أن يمسك بتأثيرها في فن العمارة، وسوقها بمجموعة من التأكيدات أولها أن كل الحضارات التي ارتبطت بالحضارة العربية هي حضارات استقلابية استطاع أن يرجعها إلى مرجعها الأساسي وهو بلاد الرافدين، وأوكد أنه لم يسبقه في البحث عنها أحد، والشيء الآخر أن العمارة لا تؤخذ على الشكل الهندسي فحسب إنما أشياء وفنون أخرى».

يذكر أن الدكتور "جهاد صالح" من مواليد "جبلة" 1948، حاصل على الدكتوراه الفخرية عن كل مؤلفاته، عضو اتحاد الكتاب العرب، يكتب الشعر ويحضر لإطلاق ديوانه الأول. يعمل على تأليف وتخطيط وإعداد دراسة كاملة عن العمارة بمادة الطين واستخدامها لبناء "قبوات" باستخدام العناصر الهندسية.