رافق كبار المطربين، وأحيا عدداً من الآلات التراثية، لكن عزفه الأخير كان بطريقة مختلفة، حيث أزال التشوهات البصرية للحديقة العامة المجاورة لسكنه وعمل على زراعتها، على الرغم من عمره الذي اقترب من الثمانين عاماً.

مدونة وطن "eSyria" التقت العازف الموسيقي "محمود النابلسي" بتاريخ 15 أيار2016، وعن بدايات تعلمه على العزف على آلة الناي يقول: «منذ الصغر كنت أستمع إلى عزف عمي على آلة "الناي"، ولطالما شدني صوتها الحنون، وطلبت منه أن أحاول العزف عليها، كان يرفض ويقول: "هذه الآلة نفخية؛ إنها تسحب روحك وترسلها لمن تحب كائن من يكون"، وعند عودتي إلى منزلي وجدت آلة "ناي" ملقاة على الأرض، فنظفتها جيداً وبدأت أتدرب على العزف عليها، بعدها كوّنت فرقة مع أولاد حارتي وأصبحنا نعزف في الأعراس.

كنت من مؤسسيي نقابة الفنانين مع الفنانين "دريد لحام" و"رفيق السبيعي" و"نهاد قلعي" من سنة 1970 إلى سنة 2007 إلى أن تقاعدت، وكوّنّا صندوق النقابة

كانت بداية طريق الاحتراف عندما سمع عزفي الموسيقي "عبد الله السرميني"، فبدأ تدريبي على النوتة إلى أن تعلمتها، وعندما كان يغيب عن الفرقة كنت أنوب عنه، كما علمني تصنيع المجموعة الكاملة لآلة "الناي"».

عزفه مع كبار الفنانين ومرافقته لموفق بهجت

وعن ذكرياته يقول: «فرحت جداً عندما طلب مني أن أعزف مع فرقة الإذاعة والتلفزيون؛ التي كانت تضم عازفين مشهورين، كعازف العود "عمر نقشبندي"، وأتذكر أول مرة صعدت فيها إلى المسرح لأعزف مع الفرقة كانت من دون "بروفا"، وبالمصادفة كانت الأغنية للمطربة العظيمة "أم كلثوم"، حيث كنت أحفظ كل أغانيها عن ظهر قلب، فبدوت وكأنني أعزف معهم منذ سنة».

ويتابع: «حاولت إحياء تراث بعض الآلات الشعبية وهي "الزورنا" أي المزمار البلدي و"المجوز" و"الأرغول" وتعلمت العزف عليها وحدي.

نقيب الفنانين فيصل عبد المجيد

أيام الوحدة بين "سورية" و"مصر" كنا نقيم حفلات أضواء المدينة المشهورة وكانت تأتي الفرقة "الماسية" من "مصر" لمرافقة عدد من المطربين القديمين أمثال "عبد الحليم حافظ" و"نجاة الصغيرة"، ولمجاراة هذا الحدث كنا نكوّن ثلاث فرق برئاسة الموسيقار "أمين خياط" و"سليم ثروت" و"صبحي جارور"، وكنت أرافق الفرق الثلاث لأنني الوحيد الذي يعزف على تلك الآلات السابقة الذكر معاً، كما عزفت مع كبار العازفين ولكبار المطربين، منهم: "كارم محمود"، و"سميرة توفيق"، و"صباح"، و"وديع الصافي"، و"موفق بهجت"».

وعن بصماته في نقابة الفنانين يقول: «كنت من مؤسسيي نقابة الفنانين مع الفنانين "دريد لحام" و"رفيق السبيعي" و"نهاد قلعي" من سنة 1970 إلى سنة 2007 إلى أن تقاعدت، وكوّنّا صندوق النقابة».

الحديقة الأمامية للبناء

التقينا نقيب الفنانين في "دمشق" المطرب والممثل "فيصل عبد المجيد"، وعن رأيه بالفنان "محمود النابلسي" يقول: «إنسان خلوق ومن الرواد الأوائل في الوطن العربي بالعزف على آلة "الناي"، وبلغة الفن نقول إنه يغرد بأسلوب جميل جداً، إذ يملك إحساساً مرهفاً، فهو موهوب جداً، أحيا التراث بعزفه على أربع آلات شعبية؛ وهو ما جعل كبار المطربين يطلبونه مثل الفنان "وديع الصافي"، يملك قدرات عالية وعلى الرغم من عمره الذي اقترب من الثمانين عاماً إلا أنه يحب الحياة، وآخر مرة زرته في الحديقة العامة التي استصلحها وزرعها وحده».

وعن عمله بالحديقة العامة المجاورة لسكنه؛ التي قام باستصلاحها يقول "محمود النابلسي": «الطبيعة كائن حي يملك إحساساً بالحياة مثلنا تماماً وقلبها ينبض برائحة الورود، عندما أعمل بالأرض أشعر بأنني أعزف موسيقا لكن بطريقة مختلفة، أنا عاشق للطبيعة بكل تفاصيلها، وعندما بلغت سن التقاعد رفضت أن تكون تسليتي الوحيدة هي التردد إلى القهوة، وبما أنني أسكن في طابق علوي كنت أنظر دائماً إلى هذه المساحة من الأرض وأتخيل لو كانت حديقة مزروعة بالأشجار والورود، قررت مع بداية عام 2007 تنظيف الحديقة الأمامية للمبنى من الأوساخ والأتربة غير القابلة للزراعة، وبدأت العمل من الساعة السادسة صباحاً حتى الساعة الحادية عشر قبل الظهر يومياً».

يتابع: «لكل مرحلة من المراحل أهميتها وصعوبتها؛ بعد أن حضرت الأرض لزراعتها بدأت مرحلة انتقاء الأشجار وتذكرني هذه المرحلة عندما كنا نرزق بطفل ونأخذ وقتاً لنختار له اسماً، حيث اخترت العرائش والأشجار التي تتحمل العطش، وزرعت الورد الجوري الذي أحبه ويذكرني برائحة الشام، وحينئذ كنت الساكن الوحيد واستغرق عملي سنتين حتى تمتعت بالمشهد كاملاً، وعندما قررت إتمام العمل في الحديقة الخلفية للبناء؛ التي كانت مكبّاً للنفايات من قبل بعض القاطنين المجاورين لنا، اجتمع القاطنون بالبناء وكوّنّا صندوقاً تعاونياً، وتمّ ترحيل الأتربة والأوساخ الموجودة فيها، استصلحت الأرض واعتنيت بالتربة من حفر وغيره، كالعادة كنت أستقبل الشمس ملوحاً لها لمرافقتي، وعندما تغطي كامل الحديقة أعرف أنه حان وقت الاستراحة؛ هذا العمل يشعرني بالنشاط والحيوية، وعندما أزرع الوردة أزرع الأمل في روحي قبل كل شيء، والفائدة التي حققتها وأنا في هذا العمر تعادل ما حققته في مرحلة الشباب من مال وشهرة، تعلمت الزراعة والعناية بالشجر، كحال الأم تماماً بمجرد أن تضع مولودها تبدأ بالفطرة العناية به».

التقينا أحد القاطنين في البناء "معتز مارديني"، إذ أعطانا رأيه بإعادة تأهيل الحديقة العامة وزراعتها بالقول: «يعدّ من أكبر القاطنين عمراً؛ إلا أنه علمنا أن من يريد العمل وزراعة الجمال يستطيع ذلك بمجرد أن يخطو أول خطوة خارج منزله، والأهم أنه علّم أكثر من 500 طفل أن يحترموا الورود، وأن يستمتعوا بجمالها ولا يرموا الأوساخ في الطريق؛ وهو ما عجزنا عنه؛ فكان مثالاً حقيقياً لأولادنا؛ فهم يشاهدونه كل صباح في طريقهم إلى المدرسة، كيف يتعامل مع الوردة وكيف يسقي الأرض العطشى، وكيف يعالج الجذع في أيام البرد، ونجد صدى فعله عندما بدأ العديد من القاطنين بالأبنية المجاورة تقليده، هو يملك موهبة تنسيق الأشجار والورود، فكانت الحديقة كلوحة جميلة، حيث رسم أشكالاً مختلفة من الحجارة الصغيرة التي كان يحضرها من تنقلاته في الطبيعة، كما أنه أخفى التشوهات البصرية الموجودة بالحديقة بطريقة جميلة».

يذكر أن "محمود النابلسي" من مواليد "دمشق" عام 1937، ورافق فرقة "العاشقين" نحو 15 عاماً، ويكتب الشعر، وحاصل على براءة اختراع عن تصميم آلة العود ليتيح إمكانية حمله على الكتف، وتم تكريمه مرتين من قبل نقابة الفنانين بالميدالية الذهبية لعطائه الفني.