عالم "فواز حداد" هو عالم كل شخص يتكلم عن العدالة والمساواة الإنسانية، حيث ينغمس في أعماق منولوجيا شخصياته ليظهر لنا تناقضات عديدة ما بين طموحات حياة جميلة ونزيهة وهرع وراء المصالح النفعية، مع أن رواياته تعتمد على الأسلوب الواقعي والصوت الواحد، لكنها في الوقت ذاته متعددة الطبقات غنية بشخوصها وأحداثها، مشبعة بالدلالات والرموز، مدهشة بجرأتها العالية، فقد سمى الأشياء بمسمياتها، تشكل التاريخ منفذ له للولوج والبحث عن الحقائق والوقائع ليكون درباً واضحاً في الحاضر والمستقبل، ينطلق في رحلته مع التاريخ حيث تبدأ من حقبة الانتداب الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي، مروراً بالانقلابات العسكرية المتتالية في الخمسينيات، فمن رواية "موازييك دمشق 39" و"تياترو 1949" مروراً برواية "الولد الجاهل" و"المترجم الخائن" وصولاً إلى "مرسال الغرام" و"مشهد عابر"، حيث وصل "فواز حداد" وعبر هذه المتوالية التاريخية ليرصد لنا مسارات التحوّل والتغيرات في المجتمع السوري بأبعاده السياسية والفكرية والاقتصادية والروحيّة، وتشابكه مع محيطه القومي، وصراعه مع النفوذ الدولي، حتى وصل إلى قائمة الترشيحات القصيرة لجائزة "البوكر" العربية، يصنفه البعض أنه من كبار الروائيين في سورية بسبب عمق أفكاره في سرد الرواية واللغة الغنية المزدهرة في كتاباته.

موقع "eSyria" بتاريخ 25/4/2009 كان في رحلة مع الزمن محاولاً فك رموز العالم الإبداعي للكاتب والروائي "فواز حداد" وليدخل عبر أبواب ودهاليز الزمن إلى السيمفونية ذات الهرمونية المتوافقة والمنسجمة، وبألحان يطرب الإنسان، ولكن بالنوطة تسمى اللغة والرواية ومؤلف يسمى "فواز حداد"، التاريخ هو جزء كبير ذو مساحة واسعة في فضاء الرواية لـ"فواز حداد" التاريخ هو غاية لتنوير العيون نحو طريق واضح وترشيد الإنسان لمعرفة ما يحيط به، وعن هذا يقول الكاتب "فواز حداد": «انطلقت تجربتي مع التاريخ في رواياتي الأولى مع "موازييك دمشق39" و"تياترو 1949" و"المترجم الخائن" وإلى حد ما رواية "الضغينة والهوى" حيث تدور أحداث هذه الروايات في حقبة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أما رواية "مرسال الغرام" فهي تتحدث عن الواقع الراهن وبنفس الوقت هي العودة إلى أيام الوحدة ما بين "سورية" و"مصر" من القرن الماضي، وتعني العودة إلى التاريخ ليس فقط العودة من أجل التاريخ في حد ذاته، وإنما من أجل ترهين الحاضر، دائماً هناك أسئلة تطرح في الحاضر لا يمكن أن نعطيها حقها إلا إذ استندنا بها إلى التاريخ، إذاً العودة إلى التاريخ تعني الحاضر بذاته ومعرفة ماهية وكينونة المستقبل».

إن الشخصية الروائية عبارة عن شخصية مركبة قد تشير إلى أكثر من شخص، وهذا ما نلاحظه في رواية "المترجم الخائن" فليس هناك شرط أن تكون الشخصية مطابقة مع شخصية واحدة في الواقع، وإنما قد تمثل الشريحة الاجتماعية بكاملها مثل شريحة الصحافيين

يتابع "حداد" حديثه بين متكبته التي تعم بألوان روائية عديدة ليقول: «كان تركيزي على التاريخ القريب في سورية، بدأت في فترة الانتداب الفرنسي أي منذ العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ونتيجة ما حصدناه في الحاضر كان الفهم ذاك الإطار التاريخي القريب، ويجب أن يكون العمل في التاريخ موثوق بقدر ما هناك من دقة علمية واضحة، لكي يدرك القارئ عندما تقرأ التاريخ في الثلاثينيات والأربعينيات في سورية تشعر به وتعيش مع أحداث ذلك الزمن وتحس بالمصداقية والإقناع في المعلومات».

بين كتبه ورواياته

السمة المكانية المركزية التي تدور فيها الأحداث في روايات "حدّاد" عامة هي "دمشق" التي تحضر بأماكنها الأليفة والعادية، المفتوحة والمغلقة، "دمشق" دائماً هو الفضاء الذي يلهم الكثير من الأحداث والوقائع و"فواز حداد" بدروه اختار من "دمشق" البيئة التي يسرد فيه حكاية أبطاله وأحداثها، فيتحدث بلهف وحبٍ كبيرين لمدينة "دمشق": «إني اخترت مدينة "دمشق" كفسحة لرواياتي بحكم أن جميع الأحداث السياسية البارزة للقرن الماضي حدثت في "دمشق"، فالانقلابات العسكرية والتغيرات البنيوية في النظام السياسي والاجتماعي كانت تحدث بشكل متسارع في "دمشق"، أما الأطراف فلم يكن هناك تأثير مباشر عليه، وهناك سبب آخر في اختياري لمدينة "دمشق" مكاناً لأحداث رواياتي، حيث تشكل "دمشق" منبعي ومكاني الطبيعي بالدرجة الأولى، "دمشق" هو الفضاء الذي أستطيع أن أذهب بخيالي فيه إلى البعيد، وهو بمثابة إلهام ودافع حقيقي لأفكاري، حيث أعمل بقدرة فكرية عميقة مع هذه البيئة، كل ذكرياتي حدثت هنا، بالنسبة لي هو مجال حيوي أستند عليه وأنا على صلة مباشرة مع هذه المدينة، لذا أستطيع التحرك فيه بكل حرية وأتنفس فيه براحة نفسية كبيرة».

الحدث السياسي هو الهاجس الروائي لـ"فواز" حيث يصنفه من أهم الأحداث في الحياة، فتشكل السياسة جانباً بارزاً في رواياته، ويبدو واضحاً للعيان في تناوله أحداث السياسة في فترة الأربعينيات والخمسينيات، وهذا ما عكسه في رواية "تياتيرو 1949" حيث كانت تشهد سورية مرحلة متذبذبة من استقرار سياسي، وعن ذلك يقول: «إن الحدث السياسي هو جوهر لكل الأحداث في الحياة، تظهر قوة الحدث السياسي حينما يهدد الأمن الاجتماعي بشكل كامل، وهذا ما حدث في الانقلابات العسكرية في سورية في أربعينيات القرن الماضي، عندما يقوم الانقلاب بتغيير النظام السياسي ويأتي بالنظام السياسي الجديد، هذا يعني حدوث تغيرات نوعية في الحياة الاجتماعية برمتها، فيحل الطبقة محل الطبقة الأخرى، فكان هناك طبقات مثل العسكر وطبقة الفلاحين والبرجوازيين، وبرزت على الساحة الوطنية طبقات جديدة صاعدة حيث كان منتظر منها أن تقوم بدورها في ذلك الوقت فكانت الأحداث تتسارع وتتغير باستمرار».

فواز حداد الكاتب والروائي السوري

ينتمي معظم الأبطال المحوريين في روايات "حدّاد" إلى الشرائح المثقّفة من كتّاب وصحفيين وموظفين وأساتذة جامعيين ومسرحيين وفنانين ونخب عسكرية وسياسية ودبلوماسية عربية وأجنبية، ولا تقدّم هذه الروايات صورة نمطية واحدة للمثقّف، كما لا تنظر إلى هذه الشريحة الواسعة بوصفها كتلة واحدة متجانسة في الدوافع والغايات، بل بوصفها مجموعات متباينة المصالح والأهداف إلى حدّ التناقض والصراع فيما بينها، فمن صورة الصحافي المثقف الملتزم بالحقيقة "صبحي عبّاس" والمسرحي الحالم "حسن فكرت" في "تياترو1949"، إلى صورة الكاتبة الغامضة "جيهان سلام" والكاتب المثقف "حسن لطفي" في "الولد الجاهل" الذي يعيش تناقضاً صارخاً بين وظيفته الأمنية في الداخلية، وهواجسه الإبداعية في كتابة القصّة ولكن ما سر استناد الكاتب "فواز حداد" على الطبقة المثقفة بهذا القدر من الأهمية في رواياته..؟

عن ذلك يؤكد: «في البداية أنا على علاقة مع مجتمع المثقفين، والمثقفون هم من يصنعون الأفكار ويقدمون المبررات الفكرية سواء مع السلطة أو مع الأطياف والتيارات الاجتماعية والسياسية المختلفة، المثقفون هم فاعلون في المجتمع بشكل رئيسي وهم عرضة للاستئجار من أي جهة، والمثقف الحقيقي هو معارض ومتمرد بشكل طبيعي للأحداث الجارية، دائماً هو في حالة التمرد الاجتماعي وهدفه هو تغيير وتحسين الواقع، لأنه دائماً هو ناقد للأوضاع الراهنة لا يمكنه الوفاق مع الظروف والأوضاع الجارية، غالباً ما يكون في الواقع كثير من العيوب والسلبيات، وعندما يتحول المثقف في التعامل مع أي جهة فإنه يتحول إلى صنيعة ويبتعد عن جوهر ذاته، على المثقف أن يحافظ على كينونته دائماً».

وحول استخدام الروائي "حداد" شخصيات توازي وتعادل الواقع بحيث نشهد أن له أشخاصاً حقيقيين يمثلونه في الواقع، يضيف قائلاً: «إن الشخصية الروائية عبارة عن شخصية مركبة قد تشير إلى أكثر من شخص، وهذا ما نلاحظه في رواية "المترجم الخائن" فليس هناك شرط أن تكون الشخصية مطابقة مع شخصية واحدة في الواقع، وإنما قد تمثل الشريحة الاجتماعية بكاملها مثل شريحة الصحافيين».

إن الفساد السياسي والإداري بوصفه تجلياً لآليات الاستبداد الشرقي، وما ينجم عنه من خراب روحي، إنما يمتد بجذوره إلى الماضي البعيد، حيث استأثرت القلة الانقلابية وأجهزتها الأمنية بها، وهذا ما حاولت رواية "تياترو1949" الكشف عنه من خلال تصويرها للصراع بين الأحزاب والعسكر في عهد الانقلابات وعزّزت روايتا "الولد الجاهل" و"المترجم الخائن" هذا السياق عبر تناولهما للصراعات والولاءات السياسية والثقافية التي تزيد من غربة المثقّف الحقيقي، وتقصيه عن دائرة الفعل والتأثير، يتطرق الروائي "حداد" إلى هذا الموضوع الحساس بكل جرأة وشجاعة حيث يقول عن مشكلة الفساد: «بالنسبة لموضوع الفساد فهو منتشر في كل أنحاء العالم ويمتد جذوره منذ القدم، ونحن لسنا استثناء عن هذا العالم الكبير والواسع، منذ مدة قرأت كتاباً عن حركة الرواية الأمريكية، فهذه الحركة منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن تركز على موضوع الفساد عموماً وهذا ما نلاحظه حتى في سينما "هوليود"، فالموضوع الرئيسي هو الفساد، وهناك الفساد بأنواعه مثلاً قد يكون هناك في المجتمع والسياسة والاقتصاد، وهذه الموضوعات تطرح بشكل غزير في كل أنحاء العالم، أما بالنسبة للرواية العربية فهذا الموضوع لم يتطرق إليه أحد بقدر كافٍ، وأعتقد أنني طرحت موضوع الفساد في رواياتي الثلاثة، وفي رواية "مرسال الغرام" ركزت على الفساد الفني والسياسي نوعاً ما وبشكل محدود، وفي رواية "مشهد عابر" ركزت على الفساد السياسي أما في رواية "المترجم الخائن" فقد ركزت على الفساد الثقافي وقد قيل عن هذه الرواية بأنه طرح الفساد الثقافي في أول مرة بهذا الشكل، وموضوع الفساد منتشر في كافة شرائح المجتمع لذا يجب أن تطرح في الرواية لأنها مسألة تمس كافة شرائح المجتمع».

في المجموعة القصصية "الرسالة الأخيرة" لا تخلو القصة من حضور "القرين" أي انشطار وتوهم في الشخصية المحورية بوصفه شخصية تقنية وفنية في آن واحد، حيث التجأ الروائي "حداد" في تقديم الشخصية بأبعاداً عديدة، عن ذلك يضيف: «استخدم هذا المصطلح في البداية من قبل أحد النقاد، وفيما بعد اعتمد كأسلوب في بعض الراويات، "القرين" عبارة عن أن شخص يمتلك في داخله أكثر من شخص، سواء الشخصية في الرواية أو في القصة حيث تلعب هذه الشخصية أكثر من دور في ذلك، وهدفي من استخدام "القرين" في أعمالي هو تقديم مساحة من حرية الشخصية في الرواية أو القصة».

وحول التقنية الروائية والحبكة التقليدية نلاحظ أن "حداد" ما زال مخلصاً في السرد وتقديم موضوع الرواية استناداً على الحبكة التقليدية وعن ذلك يؤكد: «الآن هناك حرية كبيرة في العمل على التقنية وهذا لا يعني الابتعاد عن الأسس وجوهر العناصر في الرواية، أسلوب الكتابة التقنية في العالم متشابهة وقريبة من بعضها البعض، إذا ما واجهنا في الرواية بعض الصعوبات يجب أن نتجاوز هذه الصعوبات لخلق نوع جديد من التقنيات، وهذا لا يعني الابتعاد عن الجوهر والأسس والقواعد الرئيسية في الرواية أيضاً، علينا في هذه الحالة أن نخلق شيئاً يوازي ما نواجه، عموماً ممكن أن نجدد في بعض الأحيان ولكن يجب أن تكون ضمن التقنية ذاتها».

ويضيف "حداد": «إن الحبكة التقليدية تلقى اعتزازاً واحتراماً في رواياتي لأنها تربط القارئ بالكتاب، يجب عليك جذب القارئ منذ الصفحة الأولى للكتاب، وإلا سوف يعزف عن الاستمرار في قراءة الكتاب، فلديك الكثير من الأدوات في الحبكة، وأسوأ من كل ذلك التخلي عن هذه الأدوات».

في روايات "فواز حداد" نلاحظ لغة سردية متدفقة وفق منطق طبيعي وتلقائي يضفي على كل عمل تنتجه إضافة جديدة تؤكد تميزك واختلافك في ساحة الإبداع الروائي، كيف توظف اللغة في خدمة أدبك لتعطيه هذا الطابع السلس والممتع، هناك السرد بلهجات ونبرات اجتماعية ومهنية متعددة، وعن كيفية توظيف اللغة لدى "حداد" في الكتابة يقول: «في رواية "الضغينة والهوى" هناك اللغة الدبلوماسية واللغة الاستخباراتية واللغة العلمية والتبشيرية التي كان يستخدمها البريطانيون والأمريكيون عندما كانوا في سورية من أجل التبشير، ولا يمكن أن تستند الرواية على نمط اللغة الواحدة لأن هناك تراتبية اجتماعية في الحياة، ولكل طبقة لغة تختلف فيه عن الطبقة الأخرى وهذا بطبيعة الحال عكست في رواياتي».

ولدى نهاية حديثنا معه طرحنا عليه سؤالاً حول موقع الرواية السورية من الرواية العربية والعالمية..؟

هنا أجاب الكاتب والروائي السوري "فواز حداد" بقوله: «حالياً الرواية السورية لديه حجم ضئيل من الشهرة مقارنة مع الرواية في البلدان العربية الأخرى، والسبب في ذلك نادراً ما تكون الرواية السورية في الخارج، ولكن مع تنشيط حركة المعارض بدأت الرواية السورية تفتح الأبواب الخارجية على نفسها، الرواية السورية تقدم أهم التجارب من الدول العربية العديدة وخاصة شريحة الشباب، أما بالنسبة إلى العالم فكتابة الرواية السورية تقاربت مع الكتابة العالمية، إن الأعمال التي يقدمه الشباب في سورية يوازي ما يكتبه الشباب في العالم».

ومن الجدير بالذكر أنه صدر منذ شهر رواية جديدة للكاتب "فواز حداد" وهي بعنوان عزف منفرد على "البيانو" وسيكون في الأسواق قريباً، وفي النهاية هنا تذكير بالسيرة الذاتية للكاتب "فواز حداد"، فهو روائي سوري ولد في "دمشق"، حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية، تنقل بين عدة أعمال قبل أن يتفرغ كلياً للكتابة قبل عدة سنوات.

من مؤلفاته:

  • "موازييك دمشق 39" رواية، صدرت عن دار الأهالي 1991.

  • "تياترو1949" رواية، إصدار خاص في عام 1994.

  • "الرسالة الأخيرة" قصص، وزارة الثقافة 1994.

  • "صورة الروائي" رواية، صدرت عن دار عطية 1998.

  • "الولد الجاهل"، دار الكنوز الأدبية 2000.

  • "الضغينة والهوى"، دار كنعان 2001.

  • "مرسال الغرام" رواية، دار الريس 2004.

  • "مشهد عابر" رواية، دار الريس 2007.

  • "عزف منفرد على البيانو 2009"، صدرت عن دار الريس.