تزدهي كل أمة بحضارتها.. بتاريخها.. وتراثها، وتَعتَبِرُ هذا التراث جزءاً من ذاكرتها، ومكونات شخصيتها.

احتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية /2008 عرضت على مدى عامٍ كامل أجمل ما في تراثنا، وتاريخنا، وحضارتنا، واحتضنت تراث وحضارات العالم، وفنونه، وأنعشت ذاكرتنا البصرية والجمالية عبر سلسلةٍ من المعارض في مجالات (الفن التشكيلي، والتراث، وتاريخ العلوم، والآثار). ولاستعادة ما قدّمته الاحتفالية في هذا المجال؛ التقى موقع " eSyria" بــ "دلفين ليكاس" مسؤولة ملف المعارض في الاحتفالية.

نحن بدأنا الطريق، والآن حان دوركم لتكملوا ما بدأناه..

و"دلفين" فرنسية درست الفن التشكيلي في "باريس"، ثم أتت لدراسة اللغة العربية في سورية، وأقامت فيها باستمرار منذ عشر سنواتٍ تقريباً، وخلال فترة دراستها عملت كمسؤولة عن النشاطات الثقافية في المركز الثقافي الفرنسي بــ "دمشق"، وتركّز عملها بصورةٍ رئيسية على تنظيم معارض الفن التشكيلي في المركز، الأمر الذي مكنها من التعرف عن قرب على الحركة الفنية التشكيلية السورية.

من إحياء الذاكرة التشكيلية/4/- المشغل- باب شرقي.

في شهر "أيلول" /2007 انضمت "دلفين ليكاس" إلى فريق احتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية /2008 كمنسقة ومبرمجة أنشطة، واستناداً إلى خبراتها السابقة في هذا المجال أصبحت مسؤولة ملف المعارض في الاحتفالية، وعن ذلك قالت: «عندما تسلمت ملف المعارض كان عليّ دراسة مئات الأفكار التي قدمت حول هذا الملف، وبالتشاور مع د. "حنان قصّاب حسن" الأمين العام للاحتفالية، والاستشاريين، وبقية الزملاء؛ قررنا العمل على أربعة محاور أساسية هي: الفن التشكيلي، الآثار، التراث، وتاريخ العلوم عند العرب..».

وفي مجال الفن التشكيلي كان "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية" هو المشروع الأبرز للاحتفالية، من خلال إقامة أربعة معارض ممتدة على مدار العام، تم من خلالها التأريخ للحركة التشكيلية السورية منذ العام /1879م/ وإلى الآن، وعن رؤية الاحتفالية لهذا المشروع قالت "دلفين": «قررنا منذ البداية ألا نقيم أي معرض فردي لأي من الفنانين التشكيليين السوريين، لأن عدد المتميزين منهم كبير جداً، بل كان من الصعب علينا تحديد أهم عشرة فنانين سوريين في هذا المجال، وإقامة أي معرض فردي لأحد هؤلاء الفنانين قد يظلم الآخرين، وانطلاقاً من هذه القاعدة عملنا على تسليط الضوء على المدارس السائدة في الفن التشكيلي السوري منذ البدايات وحتى وقتنا الحاضر، فكانت فكرة مشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية" عبر إقامة أربعة معارض على مدار العام، قسمت تاريخ الفن التشكيلي السوري إلى ثلاث مراحل أساسية؛ (منذ البدايات وحتى فترة الستينيات من القرن الماضي – تاريخ تأسيس كلية الفنون الجملية بــ "دمشق"، ومنذ الستينيات حتى نهاية القرن العشرين، والمرحلة الثالثة والأخيرة تسلط الضوء على الجيل الجديد من الفنانين السوريين)..»

د. "الياس زيات"

وأضافت: «لم تكن الفكرة مجرد إقامة معارض جماعية للفنانين التشكيليين السوريين وحسب، بل سبق كل معرض الكثير من الأعمال التحضيرية التي تطلبت وقتاً وجهداً كبيرين؛ كاختيار أماكن إقامة المعارض وإعادة تأهيلها قبل كل معرض، وطباعة الدليل الخاص بالمعرض، وعمليات التنظيف والترميم للوحات القديمة من مقتنيات وزارة الثقافة- المتحف الوطني، وأقدمها لوحة يعود تاريخها إلى العام /1879م/ .

فعلى صعيد اختيار أمكنة إقامة المعارض قررنا أن نقيم كل معرض في المكان الذي يناسبه، بعد إعادة تأهيله خصيصاً لهذا الغرض، وبحيث يكون هذا المكان صالة عرض مجهزة بكافة التجهيزات اللازمة لإقامة المعارض المستقبلية حتى بعد انتهاء الاحتفالية، سواءً في المتحف الوطني الذي أقمنا فيه المعرض الأول من مشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية"، أو في متحف "دمر" الذي أقمنا فيه المعرضين الثاني والثالث، أو في "المشغل" بــ"باب شرقي" الذي كان عبارة عن مصنع قديم ومهمل أعدنا تأهيله ليكون صالة عرض تضج بالحياة، وتحتضن أعمال الجيل الجديد من الفنانين السوريين، وتحويل هذا المصنع القديم إلى صالة عرض كان أحد الأحلام الاستثنائية التي تشاركتها منذ البداية مع د. "حنان قصاب حسن"، وبفضل دعمها وجهود بقية أعضاء فريق الاحتفالية أصبح هذا الحلم حقيقة..»

"دلفين" في مكتبها بمقر الاحتفالية- مجمع "دمّر" الثقافي.

وفيما يتعلق بإعداد الأدلة التي تم من خلالها التعريف بمحتويات كل معرض من المعارض السابقة قالت "دلفين": «كان علينا إعداد دليل خاص بكل معرض، يقدم سيرة ذاتية مختصرة عن الفنانين الذين نعرض لوحاتهم، ومعلومات عن أسلوبهم الفني، بالإضافة إلى شروحات عن اللوحات المعروضة وصور لها، ومقالات تقدم لمشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية" بشكلٍ عام، وتسلط الضوء على مراحله المختلفة. وإعداد كل دليل من هذه الأدلة الأربعة تطلب منا جهداً استثنائياً، خاصة في المرحلة الأولى، حيث كان علينا جمع المعلومات لأول مرة عن فنانين سوريين قدموا عطاءاتهم في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وما قبل هذه الفترة، دون أن نعرف الكثير عنهم، وفي كثيرٍ من الأحيان كان علينا أن نتحقق من أن التوقيع على اللوحة يعود إلى هذا الفنان أو ذاك، بالإضافة إلى عملية المطابقة بين المعلومات التي نجمعها عنهم، ومن مصادر محدودة؛ قد تكون من عائلاتهم، أو طلابهم، أو الخبراء في الفن التشكيلي السوري..»

ونوهت "دلفين ليكاس" في هذا المجال إلى دور د. "الياس زيّات": الفنان السوري المعروف، والأستاذ في كلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق"، والذي اعتبرته العرّاب الأكبر لمشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية"، ووصفته بقولها: «لقد كان د. "زيّات" الذاكرة الحية والحقيقية للفن التشكيلي السوري».

وحول التظاهرات المرافقة لمشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية" قالت "دلفين": «كان هناك العديد من التظاهرات المرافقة لهذا المشروع منها: معرض بعنوان "بين الكتابة والصورة.. نماذج من المخطوطات والأيقونات في سورية"، بالإضافة إلى معرض لفنانين تشكيليين بريطانيين من فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أقامه المركز الثقافي البريطاني في سورية، وكان هذا المعرض حدثاً استثنائياً في كلية الفنون الجميلة بــ "دمشق"، تعرف من خلاله الطلاب عن قرب على أعمال فنانين بريطانيين كبار مثل "بيل نيكلسون"، وتزامن هذا المعرض تقريباً مع آخر لفنانين تشكيليين إيطاليين من نفس الفترة، أقامه المركز الثقافي الإيطالي في "خان أسعد باشا"..»

كان ذلك تقريباً كل ما يتعلق ببرنامج المعارض التي نظمتها احتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية /2008 في محور الفن التشكيلي، وعن المحاور الأخرى قالت "دلفين ليكاس": «في محور الآثار أقمنا في المتحف الوطني بــ "دمشق"؛ معرضاً كبيراً عن روّاد علم الآثار السورية بين عامي (1860- 1960) يتضمن مجموعة من رسائلهم، ومخطوطاتهم، ومذكراتهم، وصورهم، وكتبهم خلال عملهم بالتنقيب الأثري في سورية على مدى مئة عام، وكان ذلك المعرض في الشهر العاشر: "تشرين الأول"/2008، وامتد إلى نهاية العام تقريباً، كما كان لدينا تظاهرة "ألف تحفة وتحفة" كفعالية ثابتة على برنامج الاحتفالية منذ بداية العام /2008/، وموعدها يوم "الجمعة" الأول من كل شهر- الساعة الثانية عشرة ظهراً- "القاعة الشامية" بمتحف "دمشق" الوطني، حيث كنّا نعرض شهرياً مجموعة من القطع الأثرية الموجودة في مستودعات المتحف، وكانت هذه القطع تعرض أمام الزوّار لأول مرّة، ويرافق العرض محاضرة بسيطة تشرح عن القطع المعروضة، والحقبة التاريخية التي تنتمي إليها، بالإضافة إلى عرض موسيقي صغير يستوحي موضوعه على الغالب من القطع المعروضة، ويتولى التحضير له شهرياً الموسيقي الأستاذ "حسام الدين بريمو"، بينما يشرف على هذه التظاهرة بشكل عام د. "ميشيل مقدسي"، والمديرية العامة للآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة.

وحظيت "ألف تحفة وتحفة" بإقبالٍ جماهيري متزايد على مدار العام، من داخل مدينة "دمشق" وخارجها، ومن مختلف الشرائح العمرية، وكانت فرصة للتعرف على ملامح من تاريخ سورية وحضارتها، وموسيقاها وتراثها..»

وتابعت "دلفين": «وفي محور العلوم أقمنا معرضاً مهماً عن تاريخ العلوم عند العرب، كما كان لدينا عدد من المعارض في محور التراث، من أبرزها؛ معرض صور فوتوغرافية عن "دمشق" في النصف الأول من القرن الماضي، من مجموعة "بدر الدين الحاج ، وطلال العقيلي"، أقامته الاحتفالية في صالة "الشعب"، بالإضافة إلى معرض "عالم السيراميك" لقطعٍ من مجموعة متحف "فيكتوريا آند آلبرت"، وأهم ما في هذا المعرض أننا استطعنا استضافة هذه المجموعة النادرة من قطع السيراميك التي تعود إلى آلاف السنين، وذلك في قلب "دمشق" القديمة، في سوق "البزورية"- "خان أسعد باشا"، ولقيت استضافة هذا المعرض في "دمشق" صدى كبيراً في الصحافة العالمية..»

"دلفين ليكاس" حملت الكثير من الذكريات الطيبة عن عملها في احتفالية "دمشق"؛ عن ساعات العمل الطويلة والممتعة، والتعاون بين كامل أعضاء فريق الاحتفالية ليتم كل شيء في وقته المحدد، واعتبرت كل ما أنجزته من عمل جزءاً من مشروعها الشخصي: «كان دافعي الأساسي نحو كل هذا العمل أن أنجز الأشياء التي أحبها، والتي أعتبرها جزءاً من مشروعي البحثي الشخصي، فعندما بدأت العمل في مجال تنظيم المعارض في سورية، وجدت أن ما أعرفه عن الفن التشكيلي السوري - رغم قلته- لا يختلف كثيراً عن معلومات طلاب وخريجي كلية الفنون الجميلة، الأمر الذي شكل لي دافعاً لمعرفة المزيد من خلال البحث، وما تم إنجازه في مشروع "إحياء الذاكرة التشكيلية السورية" هو مجرد خطوة باتجاه التوثيق لتاريخ الفن التشكيلي السوري، نضعها بين أيدي الطلاب، لكي يبنوا بحثهم المستقبلي عليها، فمعرفتهم لمن سبقوهم في هذا المجال أمر في غاية الأهمية، ويساعدهم على الانطلاق بخطواتٍ راسخة نحو المستقبل..»

وختمت "دلفين" بالقول: «نحن بدأنا الطريق، والآن حان دوركم لتكملوا ما بدأناه..».