لكل مدينةَ ذاكرتها التي تستعاد من خلال الأشخاص والأماكن والوجوه، وسائر الصور وأشكال السلوك التي تتراكم في ذاكرتنا الجماعية، و نستعيدها في لحظةٍ ما أو مناسبةٍ ما أو حديث.

تختلط هذه الذاكرة عند المسّنين بالأسطورة ليكون الماضي بالنسبة لهم زمناً مستعاداً في حكاية أو حنيناً أو تأكيداً على الوجود في مرحلةٍ ما تكتسب أهميتها من خلال استمرارية الحياة، واستدعاء اللحظة للشهادة على عصرٍ عايشوه (بغض النظر عن دقة السرد التاريخي)، وبذلك تكون رواياتهم أقرب إلى التراث، الذي يتعامل معه المؤرخ والإعلامي والباحث لترميم الصورة التي يبحث عنها وإكمال ملامحها.

عندما قّررنا التجول في سوق البزورية والبحث في تاريخه، ورصد ملامحه المعاصرة في وجوه التجار والمتسوقين كان لا بد لي من الحديث إلى المسنين، ومنهم مروان السكري: أحد وجوه سوق البزورية، وجه دمشقي مفعم بالحيوية والبشاشة رغم تقدم العمر،لم نرى مروان السكري بالملابس التقليدية( كالشروال والصدرية، أو القنباز والطربوش...)، بل كان يرتدي الملابس المعاصرة الأنيقة، ويتناول سيجارته من علبة سجائر فرنسية مع القهوة التركية متصدّراً متجره في خان الصواف (أحد خانات سوق البزورية).

سنوات (السكري) الثلاث والسبعون تجعل منه شاهداً على العصر أكثر من كونه تاجراً يمارس أعماله الاعتيادية في متجرٍ متوارث عن الأجداد، بينما يباشر أولاده أعمال تجارته بشكلٍ فعلي اليوم، وبمقاييس هذا العصر وأدواته.

مروان السكري يستعيد لنا ملامح ماضٍ عايشه:

تجار سوق البزورية يشتهرون منذ قديم الأزمان بالاستقامة(كلمتهن كلمة)، ومازالوا كذلك رغم تشوه الكثير من المفاهيم، والقيم في عصرنا الحالي.لا أعرف تاريخاً محدداً لبناء السوق، ما أعرفه أنّ أجدادي يمارسون فيه التجارة منذ زمنٍ طويلٍ جداً، ورثت عن أبي تجارته والكثير من القصص والذكريات، ومنها قصة جدي: درويش السكري الذي كان يبيع الأدوية الزراعية المستوردة من فرنسا، سأروي لكم قصته لأن فيها عبرةً ما...

قصة درويش السكري:

تعرض سوق البزورية للحريق في عام 1860م (على ما أعتقد)، وكان ذلك ضربةً قاسمةً لجدي درويش خسر بسببها تجارته وعاد إلى نقطة الصفر(كما يقولون)، وقتها طلب من زوجته (وهي من عائلة الذهبي إحدى عائلات دمشق العريقة)، طلب منها أن تعود إلى بيت أهلها لأنه لا يستطيع الإنفاق عليها، الكثير من التجار(في ذلك الوقت) غيًروا التجارة التي تخصَصوا بها، إلا أن جدّي رفض ذلك، وبسبب شعوره بالعجز قرَر السفر إلى بيروت ليبدأ من جديد، وفي محطة قطارات رياق بلبنان التقى بتاجرٍ فرنسي لم يعرفه من قبل- جدَي كان يتقن الفرنسية- تبادل مع التاجر الحديث حول أمورٍ شتّى أهمّها التجارة، وعرف منه أنه ينوي السفر إلى دمشق لمقابلةٍ تاجرٍ في سوق البزورية، وعند السؤال عن اسم ذلك التاجر تبين أنه درويش السكري، فوجئ جدّي بالأمر و ٍسأله لماذا تريد مقابلته فقال له: لقد علمت الشركة التي تورد له البضاعة بتدهور أحواله، وقررنا مساعدته لاستقامته، وإصراره على عدم تغيير تجارته، و فعلاً كان ذلك لتبدأ الانطلاقة الجديدة لجدَي التي مازلنا نجني ثمارها إلى الآن...

من ذاكرة مروان السكري... من ذاكرة دمشق:

تجارة دمشق كانت مزدهرةً جداً في الماضي، وكان لدينا سوق نشط للأسهم والأوراق الماليَة مازلت أذكر موقعه في (زقاق البوس) المتفرع عن سوق الحميدية، والمقابل لمحل بكداش(محل شهير متخصص ببيع البوظة العربية)، كانت سوقاً حرة أذكرها تماماً في العام 1953م عندما كان سعر الدولار الأمريكي ليرة سورية وخمسةٌ وسبعون قرشاً!

من أبرز تقاليد البيع التي كان متعارفاً عليها في سوق البزورية: المفاصلة على سعر السعلة(حتى يعرق الجبين)، ومن أهم البضائع التي كنا نبيعها الرز حيث كان الرز السوري -الذي اختفى الآن- أفضل أنواع الرز وأغلاها ثمناً.

أنا أول من أدخل تجارة المعلبات (الكونسروة) إلى سوق البزورية في العام 1973 م، وبقيت على هذه التجارة إلى الآن، ونحرص باستمرار على التطور.

درست بالقرب من هنا في مدرسةٍ كانت تعرف بالكلية العلمية الوطنية وهي نفس المدرسة التي درس فيها نزار قباني يوماً ما، لي ذكريات جميلة جداً في هذا السوق، و في منزل العائلة القديم بحي القيمرية، لكننا انتقلنا فيما بعد إلى حي الصالحية، وفي منزلنا الجديد كان يلتقي كبار الشخصيات الدمشقية الوطنية والاقتصادية: كحقي بك العظم، وتقي بك العظم، و حنين الصحناوي -أحد أعظم الشخصيات الاقتصادية في تاريخ سورية- وفارس الخوري- أحد أهم صنّاع الاستقلال ورئيس الوزراء السوري الأسبق- كل أولئك كانوا أصدقاء لوالدي ، كنت أقدم لهم الشاي واستمتع بأحاديثهم( عن القرآن وعلوم الدين، وآداب اللغة العربية، والتجارة، والسياسة).

سأروي لكم إحدى القصص ذات الدلالة عن فارس بك الخوري كما سمعتها:(يحكى أن فارس الخوري ذهب على رأس وفدٍ إلى الأمم المتحدة للمطالبة باستقلال سورية- وكان متحدثاً شديد الذكاء- أراد أن يوصل رسالة ما للحاضرين، فجلس على مقعد المندوب الفرنسي الذي لم يكن وصل بعد، وعندما وصل شعر بالغضب الشديد ، وسأل فارس بك الخوري بعصبية: لماذا تجلس على الكرسي المخصص لي؟ فأجابه فارس بك : أنا جلست على كرسيك لخمسة دقائق فشعرت بالغضب، فكيف نشعر نحن السوريون وأنتم تحتلون بلادنا لأكثر من عشرين عاماً؟ عندها تعذّر على المندوب الفرنسي الكلام و ضجّت قاعة مجلس الأمن بالتصفيق...).

قطع صوت أذان الظهر حديث مروان السكري ليعتذر منّي ( حان وقت الصلاة...سعدت كثيراً بمقابلتك...أنتم أيقظتم ذكرياتي"وين بدكن تنشروا هالمقابلة؟")

أمليت على ابنه عنوان موقعنا الإلكتروني eDamascus.sy، وترافقت مع السيد مروان السكري إلى مسجد البزورية ليؤدي صلاته، وأتم جولتي في السوق...