عرفا كثيراً من الشقاء والتعب، بقي جدي لسنوات طوال بعيدا في بلاد الغربة مرة في مصر وأخرى في السعودية ليستطيع بناء وتكوين أسرته التي كان يحلم بها، أما جدتي فشاركته تعبه وشاركته البناء في زمن لم يكن أهله يعرفون معنى المشاركة، حملت الحجارة لتشيد البيت الجديد عملت في الزراعة ورعت الأولاد فضلاً عن أعمال المنزل، اختلفا كثيرا ولكنهما بقيا متفقين على الحب.

أذكر منهما الكثير، فجدتي امرأة لا تعرف الكلل تعمل ليل نهار لتصنع أفضل ما يمكن لمنزلها وزوجها. كبرت ولم تتغير، هرماً ولم تتغير، وكنت أشعر أنها كلما كبرت أكثر ازدادت حيوية ونشاطاً وحباً للحياة، لمستها الحنونة وأسئلتها الكثيرة عن العمل وتفاصيله واستفساراتها الكثيرة عن كل جديد تشعرك بأنها شابة في بداية حياتها، مُحبة أيما محبة، لم أسمعها يوماً تتذمر، طيبة القلب بسيطة بساطة الريف الجميل الذي يصقل الإنسان على الوضوح والبراءة، عانقت الجبال بهامتها، وشقت طريق أسرتها بهمتها معتبرةً الحب نعمة ما بعدها نعمة ومؤمنةً بأن من يحب لا يكره ومن يحب لا خوف منه ولا عليه فالحب حارسه ومنقذه.

أما جدي فقد حل بأرض الوطن مزارعاً خبيراً في أحد مشاتل الدولة، بقي فيه ليوم تقاعده، كان دائم الصمت قليل الكلام لم أره يوماً يجادل، هادئاً أتم الهدوء، ساكنا كالحكمة، لم أسمع منه يوما توبيخاً رغم معرفتي بقسوته وشدته ولم أتلق منه سوى السؤال الطيب والمحبة، يسألني: "كيف كان يومك؟"، أجيب "بخير"، ويكتفي بنبرة صوتي حتى يعرف إن كنت فعلاً بخير أم لا، فعندما أكون مضطرباً يلحظ ذلك بسرعة ومهارة كبيرتين مهما حاولت التهرب والاختباء وراء قناع الحال الحسن، وعندها يتابع "ماذا هناك؟" ولا أعرف ما أقول سوى "لا شيء"، وهو بدوره لا يصر على السؤال مما يسهل علي الحوار.

لم أعرف يوماً كيف يعرف جدي الحب؟ لكنني تعلمت منه أن الحب ضرورة ما بعدها ضرورة و يجب عدم التنازل عنها، فهو لم يذكر شخصاً أمامي بسوء لأنه كان يشعر بأن الحب قد طهر قلبه لدرجة لا يستطيع أن يذكر أحدهم بسوء.

جاءت ساعة الفراق بيني وبينهم وحل الموت ضيفاً ثقيلاً على منزلنا  فتوفي جدي في أحد أيام السبت نتيجة مرض الشيخوخة وتوقف العضلة القلبية، لكن هول المفاجأة تعدى قدرة الاستيعاب بوفاة جدتي بعده بثلاثة أيام نتيجة مرض في جهاز الهضم، وكل من عرف الحكاية قال إنهما كانا يحبان بعضهما بقوة والحقيقة أن زواجهما كان بعد قصة حب ريفية بسيطة ولكنها روعة في الجمال والإخلاص والوفاء وخير دليل على وفائهما وودهما إرادة الرحيل المشترك وكأنهما يقولان لنا "بدأنا معا ونرحل معا".