ثلاثون عاماً مرت كأنها البارحة، لم تخرج من شغاف قلبه أيام الصبا والمراح في قرية صغيرة، عاد إليها ليجدها مدينة كبيرة وشوارع لم يعتدها بعد، قضى نصف حياته في الولايات المتحدة الأمريكية، واليوم يعود ليحط الرحال في مسقط رأسه، هذا هو حال المغترب "فريز متري".

موقع eSyria التقاه في منزله الكائن في مدينة "النبك" التابعة لمحافظة "ريف دمشق" وكان حواراً حول ذكريات الأيام الغابرة، فتحدث عن نشأته قائلاً: «ولدت في مدينة "النبك" عام 1935 وفيها درست الابتدائية والإعدادية والثانوية، دخلت الجامعة لكنني لم أكمل دراستي في كلية الاقتصاد والتجارة فقمت بتأسيس مكتب للاستيراد والتصدير في مدينة "دمشق" واستمر الحال حتى عام 1982».

في ولاية "فلوريدا" كان المقام واستمر علاج ابنتي ثلاث سنوات وأشكر الله عليّ أن منّ علينا بشفائها، ومنذ ذلك الوقت كتبت عليّ وعلى عائلتي الغربة

ونتيجة مرض ابنته التي باءت كل محاولات علاجها بالفشل، كان لا بد من السفر، وكانت وجهته الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن بوارد البقاء هناك، لكنه بقي، وتابع قائلاً: «في ولاية "فلوريدا" كان المقام واستمر علاج ابنتي ثلاث سنوات وأشكر الله عليّ أن منّ علينا بشفائها، ومنذ ذلك الوقت كتبت عليّ وعلى عائلتي الغربة».

السيدة هند خنشت

حمل "فريز متري" (أبو إلياس) عادات وتقاليد منطقته، وهو على يقين أنها مختلفة وفيها من الخصوصية ما يجعلها ملاذه الدائم في قلب بلد يعصف بالمتغيرات، يقول: «يمكنك في أمريكا أن تعمل، ولكن ليس متاحاً أمامك أن تطور علاقاتك الاجتماعية كما هو الحال في سورية، فالحياة في أمريكا هي لمن يعمل فقط فلا يوجد متسع للتفكير بأي شيء آخر، أصبحنا نعيش حالة المقارنة بين عاداتنا والممارسات اليومية للمجتمع، إذ تجد أن الاحترام موجود ولكن القيم مفقودة بمنظورنا العربي».

وبعد أن اتخذ قراره بالبقاء في أمريكا كان لا بد من إيجاد مورد رزق يعتمد عليه رغم أن المتاح هو العمل في محلات السوبر ماركت، يقول: «بدأت العمل في "بوتيك فرنسي" وأخذت زوجتي ترتاد دول أوروبا لشراء الألبسة وطرحها في السوق الأمريكية، ولم يكن هناك انتشار للألبسة الإيطالية لعدم تذوقهم لها في الجنوب الأمريكي، باءت محاولتنا بالفشل فعدنا كغيرنا للعمل في سوبر ماركت كبير، كذلك لم نلق النجاح الذي نرجوه».

المغترب فريز متري

لكن النجاح لابد وسيأتي بالإصرار والعزيمة وهذا ما حدث له بعد تخرج ابنته من الجامعة، فتحول من مستثمر صغير لرجل يدير مطعماً صغيراً والذي تدرج ليتسع شيئاً فشيئاً، وكانت الانطلاقة الصحيحة له في بلد الاغتراب.

ولأنه كان في بلد لم يستطع أن يـُزيح من قلبه وطنه الأم، عاد إلى حيث يجب أن يكون: «وطني لم يغب عن ذاكرتي يوماً واحداً، خلال ثلاثة عقود من الغربة، فقد قررت العودة بعد أن واجهت الكثير من المواقف التي ذكرتني بعبق تراب مدينتي "النبك"».

في منزله

وبعد سنوات طويلة في الاغتراب كيف تفاعل السيد "فريز" مع الجاليات العربية عامة والسورية بشكل خاص؟: «جميع المغتربين العرب مميزون والسوريون خاصة ناجحون ومحترفون، يحترمون قوانين البلد الذي يعملون فيه لا يخالفونها، ونادراً ما تجد سورياً لديه إشكالية قانونية، وهذا مؤشر على أنهم نقلوا عادات وتقاليد العربية الأصيلة التي تمتاز بالأخلاق والقيم والمثل العليا، وجسدوا قولاً وفعلاً تلك المنظومة العربية الخالدة».

وبعد عقود ثلاثة خلص إلى أمر مفاده أن على الإعلام العربي أن يجد طريقه ليصل إلى الجاليات العربية، وهذا شكل مطلباً حقيقياً بالنسبة له، يقول: «من يبحث جيداً يجد أن كبار العلماء الأمريكان هم من أصل سوري، إضافة إلى وجود الكثير من المستثمرين ولو عادوا إلى الأرض الوطن لشكلوا منعطفاً حضارياً واستثمارياَ، وهم بحاجة لمعرفة أكثر عن بلادهم وهذا يقع على عاتق الإعلام، ونحن رأينا بأم العين التطور الملحوظ التي شهدتها سورية، والدلائل تشير إلى أن مستقبل الأعمال والنمو الاقتصادي للشرق الأوسط ولسورية النصيب الأكبر لما حققته من حصانة اقتصادية ملحوظة».

وفي جولة سريعة بين جدران بيته الذي يحمل التراث المحلي لبيئته التي فارقها شاباً دون أن تفارق ذاكرته، بدى واضحاً تعلقه وتمسكه بتراث والده وجده فبني بيتاً بطابع محلي "نبكاوي"، وهنا يقول: «ركزت في تفاصيل بيتي الداخلية على إظهار المعالم النبكية القديمة حتى أنني أسميته "بيت النبك" لأن المنزل بالنسبة لي هو "موناكو" أما النبك فأجمل من سويسرا لأنها تمتاز بكرم أهلها وضيافتهم».

السيدة "هند خنشت" زوجة السيد "فريز" التي رافقته في حله وترحاله تحدثت عن معنى الوطن كما عرفته في مشاعر زوجها: «منذ أن غادرنا أرض الوطن سوياً لم تفارق سورية خيال زوجي "فريز" وهو يعشق كل عربي ينقل معالم وثقافة بلده إلى العالم الخارجي بثقة العربي المؤمن بأن تاريخه وحضارته تستطيع أن تجسد قيم ومثل العرب أينما وجدوا، والدليل أنه في إحدى الاحتفالات التي أقيمت هناك في أمريكا أصر على حضور كامل الأسرة بما فيها الأحفاد الذين عكسوا ثقافة جديدة عندما شاركوا الفرق الشعبية القادمة من أرض الأجداد ليتذكروا في دبكاتهم الشعبية حارة "الدريب" وهم لم يزوروا سورية بعد، الأمر الذي ولّد عند الكثيرين من المغتربين اليقين الكامل أن الدماء العربية تعكس ثقافتها مهما بعدت عن المكان».

يذكر أن للسيد "فريز متري" ثلاثة أبناء "إلياس وهزار وهلا" وستة أحفاد مازالوا يقيمون في الولايات المتحدة.