ضمن جولتنا اليومية في المراكز الثقافية في دمشق، التقينا السيدة مها الحمصي التي كانت تحضر إحدى الأمسيات الأدبية بمركز أبو رمانة الثقافي، والتي تحدثت لنا عن تجربتها الاغترابية في النمسا منذ حوالي خمسة وثلاثين عاماً قضتها بالعمل الدؤوب والمستمر في نشر الثقافة السورية بين أبناء الجالية العربية والمجتمع الأوروبي هناك.

السيدة مها حدثتنا عن تجربتها بكثير من الدفء قائلة: أنا من مواليد دمشق عام 1949 خريجة أدب عربي من جامعة دمشق.

بدأت قصتي حين تزوجت السيد نصوح سعد الدين الذي كان يدرس الطب في النمسا، وانتقلت معه إلى هناك، وعندها أحسست بالاختلاف الكبير بين بلدي والنمسا في كثير من الأمور منها العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة هناك، حتى إن اختلاف الطقس هناك تسبب لي ببعض المشاكل الصحية منذ وصولي إلى مطار فيينا الدولي، وهذا انعكس سلباً على نفسيتي فلم أكن سعيدة بهذا الوضع الجديد، لأنني كنت معتادة على المعيشة في دمشق المعروفة بحميميتها ودفئها على عكس ما التمسته في النمسا.

ومع مرور الوقت بدأت أتأقلم مع طبيعة الجو والبيئة الاجتماعية السائدة بالنمسا، ومن خلال عزلتي هناك استغليت الوقت وتعلمت اللغة الألمانية بمساعدة صديقاتي الجدد.

أما الوظائف التي عملت بها فبدأت بعقد صغير في مكتبٍ إحصائي تابع للكنيسة، ومن ثم عملت كمحاسبة في بنك شبارك كاسه، وضمن هذه الفترة حملت بمولودي الأول ما اضطرني إلى ترك العمل وملازمة المنزل، ورغبت أن أضع مولودي الأول في دمشق رغم متاعب السفر وحالتي الصحية التي تمنعني من ركوب الطائرة.

ومن تارة إلى أخرى أزور سورية أنا وأبنائي وأحاول دائماً أن أدمجهم بالمجتمع السوري،وهم يتمنون أن يقيموا فيها لولا متطلبات العمل لديهم هناك.

ومن خلال إقامتي في النمسا، عملت مع الجالية السورية المقيمة هناك على خلق جسر تواصل بين بلادنا وأوروبا للاستفادة من التجارب والخبرات الأوروبية في التطوير بلادنا، وهذا ما زرعته داخل أبنائي، ومنهم من يعمل الآن في تطوير المشاريع الإنمائية والاستثمارية في سورية بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وفي سؤالنا للسيدة مها الحمصي عن دور الجالية السورية في النمسا أجابت: حاولت مع مجموعة من النساء السوريات والعربيات في النمسا العمل على تشكيل ما يسمى تجمعاً ثقافياً نسائياً يبحث في المشكلات التي تؤرق عالمنا العربي والإسلامي، ومنها مشكلات التربية والتعليم التي يواجهها أبناؤنا في المغترب، إضافة لبعض المشكلات الاجتماعية الأخرى في التكيف مع العالم الغربي من دون التخلي عن قيمنا العربية الأصيلة، والسعي لإيجاد جيل جديد مبدع ومثقف قادر على التصدي للعدو والوقوف بوجهه.

أما بالنسبة لعملي الآن فأنا أعمل مدرسة للغة العربية في الجامعات الشعبية، وساهمت في إدخال المطبخ العربي إلى النمسا بشكلٍ عام والدمشقي بشكل خاص، ولاقى هذا صدى واستجابة كبيرة من الجميع، وحالياً أعد كتاباً بعنوان (المطبخ النباتي السوري) الذي سيصدر قريباً، وأنا اليوم أعقد محاضرات في النمسا تتحدث عن (سر الجمال الشرقي) لأن الغربيين ينبهرون بجمالنا الشرقي وأصبحوا يعتمدون اليوم أكثر فأكثر على المصادر الطبيعية في زينة المرأة، بعيداً عن استخدام مستحضرات التجميل المصنوعة من مواد كيميائية.

وعلينا الاستفادة من الإيجابيات الغربية، وخاصة في مجال الرياضة واللياقة البدنية والمحافظة على البيئة من التلوث، وتنمية مهارات الفرد في سماع الموسيقا الهادئة وقراءة الكتب والروايات.

وفي نهاية الحديث مع السيدة مها الحمصي سألناها عن سورية وماذا تعني لها بعد هذه الغربة الطويلة؟ فأجابت: أعتبر سورية بمثابة الأم لي، وعلينا نحن المغتربين المساعدة في إنماء سورية وتطورها لتكون في المستقبل من الدول المتقدمة والمؤثرة على مستوى العالم العربي والغربي.

وأنا أحب دمشق في كل أوقاتها من شروق شمسها إلى مغيبها، وأعشق شعبها الطيب الكريم المحب الصادق في علاقاته الأسرية الحميمية المفقودة في دول العالم الغربي.