على الرغم من التقدم العلمي الذي شهده الطب النفسي، وأهميته كاختصاص لعلاج الأمراض النفسية، إلا أن النظرة السلبية في المجتمع مازالت موجودة، وإن كان الكثيرون من الناس يؤمنون به ويلجؤون إليه في كثير من الأحيان، إلا أنهم يرفضون الإفصاح عن ذلك.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 6 كانون الثاني 2016، "عمر العشاوي" موظف بإحدى الشركات الخاصة؛ الذي حدثنا عن نظرته إلى الطبيب النفسي بالقول: «أعتقد أن الذهاب إلى الطبيب النفسي ثقافة يجب أن تسود كل المجتمعات الشرقية؛ وخاصة في الأوضاع الراهنة بسبب انتشار الحروب وما لها من تبعات على الصحة النفسية، وأنا شخصياً مع فكرة الذهاب إلى الطبيب النفسي إذا اقتضى الأمر؛ لكن ليس لدي استعداد للإفصاح عن ذلك، لأننا في مجتمع يعدّ المريض النفسي "مجنوناً"، وليس لدينا ثقافة التفريق بين المريض النفسي والمجنون، وقد يعاملون ذات المعاملة، وهذا برأيي جريمة اجتماعية لأننا بهذه الطريقة نكون حرمنا الكثيرين من إمكانية الشفاء بسبب الخوف الاجتماعي».

نفتقد إلى العيادة النفسية الشاملة، التي تتضمن جناحي الطب النفسي، الاختصاصي أو المعالج النفسي والطبيب النفسي، وذلك لبناء خطة علاج كاملة وصحيحة تتم خلالها دراسة الحالة كاملة من التاريخ الشخصي والطبي والاجتماعي والعائلي للمريض، للوقوف على الأسباب الرئيسة الكاملة؛ التي يبني عليها الطبيب النفسي لاحقاً خطته العلاجية

أما الطبيبة النفسية "لانا سعيد" فتحدثت من وجهة نظرها عن الحالة هذه بالقول: «يجب أن نعرف أن الطبيب النفسي درس في كلية الطب البشري، ودخل اختصاص "الطب النفسي"؛ وهذا توضيح لا بد منه لأن بعض الناس يعتقدون أنه درس "علم نفس"، فهو طبيب كغيره من الأطباء يأخذ الأعراض النفسية من المريض ليضع تشخيص المرض والخطة العلاجية المناسبة، وكما يذهب الشخص إلى طبيب مختص بأحد الأمراض العضوية عندما يعاني من مشكلة جسدية تؤثر في أدائه وحياته وعمله، يجب أن يذهب إلى طبيب نفسي عندما يعاني من مشكلة نفسية تؤثر فيه، فالسلامة النفسية هي مكملة للسلامة الجسدية، وكل منهما يؤثر بالآخر، فالمرض النفسي يؤثر في مناعة الجسم ويفاقم الأمراض العضوية، فما هو مؤكد حسب دراسات عالمية أن الحالة النفسية غير المستقرة تؤثر سلباً في المناعة، وبالتالي تفاقم من المرض العضوي، والجهل بالمرض النفسي وطبيعته وأسبابه فتح الباب لاجتهادات عامة الناس، فيجب توعية الناس بعمل الدماغ ووظائفه، ولا بد من طرح حالات تم شفاؤها وإجراء ندوات وجلسات توعية عن أهمية الطبيب النفسي، وأن زيارته ليست بالأمر المعيب، فمثله مثل طبيب القلبية وغيرها من الاختصاصات؛ بل ربما أكثر ضرورة منه».

د. لانا سعيد

وعن الاستفادة والاستجابة للعلاج النفسي تضيف: «إمكانية الشفاء التام من المرض النفسي وعودة المريض إلى حياته الطبيعية من دون آثار لمرضه تختلف حسب الحالة، وتتفاوت استجابة الأشخاص للعلاج حسب نوع المرض وشدته، وقد يشفى المريض شفاء تاماً بمتابعة العلاج، وقد يستمر مرضه مدى الحياة ولكنه مستقر على العلاج، وهناك بعض الأشخاص يكون مرضهم شديداً ومعنداً، والأهم من الشفاء هو الوصول إلى حالة الاستقرار النفسي، أحياناً يمكن اللجوء إلى مساعدة المعالج النفسي الذي يقوم بجلسات علاج سلوكي معرفي في بعض الحالات التي تحتاج إلى ذلك، مع أو من دون العلاج الدوائي، وأحياناً نحيل الشخص إلى مرشد اجتماعي في حال وجود مشكلات اجتماعية بحاجة إلى تدخل مختص».

وتتابع وصف بعض النظرات الخاطئة إلى الطب النفسي: «هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة المنتشرة في مجتمعنا التي يجب توضيحها، كحالة الأدوية النفسية التي تعطى للمريض النفسي على أساس أنها جميعها مهدئات، وأنها تؤثر سلباً في كيمياء الدماغ، وهذا غير صحيح؛ فكما يحتاج مريض السكري إلى الأنسولين (وهو ليس مهدئاً) لتنظيم مستوى السكر في الدم، هناك أدوية علاجية للأمراض النفسية وهي لا تسبب الإدمان، من الممكن في بعض الحالات أن نلجأ إلى الأدوية المهدئة كعوامل مساعدة في بداية العلاج ولفترات قصيرة فقط، وبما أن المريض يتحسن بواسطة الدواء؛ فهذا دليل أنها تؤثر إيجابياً في كيمياء الدماغ وليس سلباً».

غالية سقباني

الوطن العربي من أول المجتمعات والحضارات التي أقامت مستشفيات نفسية في "غرناطة" و"دمشق" و"بغداد" واهتمت بالمريض النفسي ومعالجته معالجة حديثة، في الوقت التي كانت فيه أوروبا ترفض المريض النفسي وتحرقه، فنحن عرفنا الطب النفسي منذ أكثر من ألف سنة، لكنه مع الوقت تراجع الاهتمام به، وعن ذلك تقول دكتورة "لانا": «الطب النفسي في "سورية" لم يعطَ حقه كاختصاص يدرّس ويطبق مقارنة مع الدول الأكثر تحضراً، ولا يوجد عندنا اختصاص طب نفسي دراسات عليا سوى في "مستشفى المواساة الجامعي"، وحالياً تم افتتاح شعبة مستقلة، وقريباً سوف تنطلق عملياً، فقد زاد الاهتمام نسبياً بهذا الاختصاص، لكن ما يزال الاختصاص نادراً، وبحاجة إلى اهتمام وتطوير الخدمات والاهتمام بالكوادر من تمريض وأطباء وحتى الأدوية وتوافرها.

عدد الأطباء النفسيين في "سورية" لا يتجاوز 80 طبيباً، وفي الوطن العربي عامة يوجد 1200 فقط، ونحن نعرف بعضنا كأطباء نفسيين، وأظن أن العدد قلّ خلال الأزمة بسبب الهجرة والسفر، على الرغم من أن انتشار الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق والخوف من المجهول هي أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً، وقد تفاقمت أكثر بعد الأزمة الحالية التي تعصف بالوطن».

وتذهب "غالية سقباني" الاختصاصية النفسية في أحد مراكز الإيواء، والمرشدة النفسية في مدرسة "غازي الخالدي" للقول: «الوعي بالصحة النفسية وأهميته ضرورة لكل فرد؛ لذلك لا بد من التمييز بين الحالات النفسية وتوجيه كل حالة إلى مكانها المناسب، هناك نوعان للحالات النفسية عصابية وذهانية، والحالات العصابية هذه يتم علاجها عن طريق تعديلات سلوكية معرفية، لأنها تعد حالات متوسطة الشدة ولا تؤثر في حياة الإنسان تأثيراً مبالغاً فيه؛ مثل حالات "الاكتئاب العصابي" التي تطبع حياة الإنسان بالكآبة والسوداوية، لكن لا تعطل حياة الإنسان الاجتماعية، في حين "الاكتئاب الذهاني" قد يعطل حياة الإنسان الاجتماعية واليومية بالكامل، وهنا يجب الاستعانة بالطبيب النفسي فوراً، ففي هكذا حالات قد يصل الأمر بالمريض إلى الانتحار، فتكون نظرة المجتمع إليه على أنه مجنون، وتبدأ عندها التأويلات الاجتماعية، وفي حقيقة الأمر هو مريض وبحاجة إلى علاج نفسي».

وتضيف: «نفتقد إلى العيادة النفسية الشاملة، التي تتضمن جناحي الطب النفسي، الاختصاصي أو المعالج النفسي والطبيب النفسي، وذلك لبناء خطة علاج كاملة وصحيحة تتم خلالها دراسة الحالة كاملة من التاريخ الشخصي والطبي والاجتماعي والعائلي للمريض، للوقوف على الأسباب الرئيسة الكاملة؛ التي يبني عليها الطبيب النفسي لاحقاً خطته العلاجية».

من جانبها الطبيبة النفسية "لانا سعيد" ختمت حديثها بالقول: «النظرة السلبية في مجتمعنا إلى المريض النفسي سببه الأفكار الخاطئة والخرافات الموروثة؛ مثل الأرواح الشريرة التي سكنته، أو أن جنياً قد مسه، ويجب أن ينبذ أو يعذب لذلك هو وصمة عار لعائلته؛ وبالتالي يجب نبذه من مجتمعه. ولكي نصبح قادرين على فهم الطبيب النفسي الفهم الصحيح، نحن بحاجة إلى فهم أنفسنا أولاً، والاهتمام بالصحة النفسية عموماً، والتثقيف النفسي، والموضوع بحاجة إلى وقت كي نغير النظرة السلبية للمجتمع، إضافة إلى ضرورة تغطية الأمراض النفسية بالتأمين الصحي، وعدم اعتبار العلاج النفسي شيئاً مخالفاً للمعتقدات الاجتماعية، أو كما يعتقد بعضهم أنه نوع من الرفاهية».