الفن العربي له تاريخ كبير مرتبط بعالم الزخرفة والنحت على الحجر، ولعلّ وجود المنحوتات الأثرية هي أكبر دليل على عمق الفن العربي واتصاله بالحضارة، هذه الحضارة التي ولّدت تشكيليين على مر السنين ليرتقوا بالفن العربي ويطوروه.

موقع"eSyria" بتاريخ 3/10/2010 وخلال حضوره لفعاليات الندوة التي أقامتها غاليري "رفيا" في المتحف الوطني تحت عنوان "الفن العربي في عالم متغير" التقى الناقد السوري "سعد القاسم" أحد محاضري الندوة ليحدثنا عن الفن العربي من وجهة نظره، هنا يقول: «سأنطلق من العنوان الأساسي للندوة "الفن العربي في عالم متغير" لأورد ملاحظة شخصية قد تصلح جواباً مختصراً لسؤال كبير متشعب، ما الذي تغير في عالمنا اليوم؟.. فعلى مدار عقود طويلة كان زوار "فرنسا" و"باريس" خاصة يصطحبون معهم حين عودتهم إلى بلادهم مشاهداتهم عن متحف "اللوفر، الجيوكندا، قوس النصر، برج ايفل"، والأكثر اهتماماً بينهم تشمل قائمتهم لوحات "رمبرانت، روبنز، دافيد، دولاكروا، ميليت، انغرا، غويا" وسواهم من الأسماء التي صنعت تاريخ الفن العالمي، وارتبطت بالذاكرة باسم متحف العاصمة الفرنسية، أما اليوم فصار مألوفاً أن يتحدث عن شيء آخر مختلف تماماً، مهملين كل ما كان يثير اهتمام أسلافهم، أعني "ديزني لاند" مدينة التسلية التي صارت تجتذب من الزوار المشابهين لنا أكثر مما تجتذب معالم "باريس" التاريخية الإبداعية».

إن موضوع الفن لم يعد مادة تخص علماء الجمال ومؤرخي الفن ونقاده، حيث إن الفاصل بين الكتابة عن الفن وأشكال الكتابة الأخرى ضاع وانفتح المجال أمام تداخل الأنظمة النظرية والأنساق المعرفية الأخرى، فالفن العالمي يعيش حالة من طغيان العروض الكبرى على المعارض العادية وتصدع الحدود بين أنواع الإبداع وضمور المرجعيات الفنية وظهور المرجعيات الفردية إضافة إلى تراجع دور التصوير الذي لم يعد فناً يحمل على عاتقه تطوير سائر الفنون فضلاً عن تعاظم دور التقنيات في إنتاج وتصور العمل الفني

يتابع: «هذا هو الواقع الذي أنتجته العولمة، التي إن كان الحوار حولها قد خفت كثيراً عما كان عليه قبل عقد من الزمن، فإنها بمفهومها الأكثر صراحة وواقعها الأكثر قسوة، قد قدمت نفسها كفعل انتقال للسلع والمفاهيم من المركز الأقوى إلى المركز الأضعف، وغالباً دون إمكانية عملية لانتقال معاكس، نتيجة لهذا الأمر الواقع يتضاءل حضور ثقافات، وتقف ثقافات على حافة التلاشي، ويدخل كثير منها في نفق الاندثار، وهو ما يفسر صيحة التحذير التي أطلقتها منظمة "اليونسكو" قبل بضعة أعوام بأن نحافظ على تنوعنا الخلاق، هذا التنوع الثقافي الحضاري لم يتعرض فقط لخطر المنافسة مع الحضارات الأحدث والأقوى، وإنما تعرض كذلك لعمليات التدمير القسري».

سعد القاسم

يضيف: «إذا استثنينا تجربة الجزائري "محمد راسم" التي استلهمت المنمنمات الإسلامية في تناول مواضيع معاصرة، وكذلك تجربة الرسامين الشعبيين الفطريين في "سورية وتونس" التي استعادت الأساليب القديمة في تصوير وقائع الأساطير الشعبية، فإن معظم التجارب الفنية العربية قد اعتمدت الأساليب الغربية السائدة حينذاك عن طريق الاتصال المباشر بأوروبا الذي تم في المجال التشكيلي أواخر سنوات الدولة العثمانية مع استقدام فنانين أوروبيين إلى "الأستانة" لعمل وجهيات للسلاطين وكبار رجال الدولة، وقبل ذلك عن طرق الاحتكاك مع الفنانين المستشرقين وخاصة في بلاد المغرب العربي، وأثناء حملة "نابليون" إلى "مصر"، ومن ثم أثناء فترات الانتداب الأوروبي على دول المشرق العربي حيث حضر إلى هذه البلدان فنانون أوروبيون قاموا بتدريس الفنون في مدارسها، وبالمقابل سافر عدد من الفنانين العرب للدراسة في أوروبا حيث شكلوا جيل الريادة الأول».

ما الانتماءات التي كان الفن العربي يبحث عنها منذ البدايات..؟ عنها يقول "القاسم": «منذ بداياته كان الفن العربي يبحث عن انتماءين بآن واحد، الانتماء إلى محيطه المحلي وثقافته وتراثه، والانتماء إلى المستوى الراهن للفن العالمي، وفي إطار هذا البحث الثنائي ظهرت في التجارب الفنية الأولى الاتجاهات الأوروبية المنتشرة حينذاك وخاصة الواقعية والانطباعية، مع حرص على اعتماد الموضوع المحلي في محاولة للتوفيق بين الانتماءين المشار إليهما، وفي وقت ذاته ظهرت في التجارب التشكيلية العربية الاتجاهات التي تسعى للتأصيل عبر إعادة وصل الفن العربي الحديث بجذوره القديمة، إما بالعودة إلى تراث الفنين المسيحي والإسلامي، أو بالعودة إلى التراث الفني للحضارات القديمة التي قامت على الأرض العربية».

الفن العربي

يتابع: «مع تنامي المد الأصولي بفعل التحولات السياسية والعالمية الكبرى أشاحت شرائح واسعة من المجتمعات العربية بوجهها عن الفنون المعاصرة، مستبدلة بها فنوناً تراثية تعتمد على الكتابات المقدسة، والأقوال المأثورة، ومن المؤسف أن ما استنسخ من هذه الفنون التراثية كان بعيداً عن الأصول القديمة التي اتسمت بالكثير من البراعة والإبداع، وأنتجت أعمالاً تقف في الصف الأول من الإبداعات الإنسانية.

وفي حين سعى بعض التشكيليين المتنورين إلى مد جسر بين الفن المعاصر والجمهور، تلاقى هذا التحول في مفاهيم شرائح اجتماعية واسعة، مع تراجع الاهتمام الرسمي بالفن التشكيلي، ونشوء طبقة اجتماعية تجد في اقتناء الأعمال الفنية وسيلة للادخار ومظهراً من مظاهر التباهي الاجتماعي، ما أدى في النتيجة إلى طغيان العامل الاقتصادي على العامل الثقافي في تقييم العمل الفني، فصارت أسعار اللوحات في صالات العرض وصالات المزاد هي من يحدد قيمة العمل الفني، وقد تكون ملاحظة جديرة بالاهتمام أنه في سورية مثلاً لم يظهر خلال العقدين الماضيين ناقد تشكيلي واحد، وأن عدداً كبيراً ممن كانوا يكتبون في الفن التشكيلي قد انكفؤوا عن الكتابة، ومثلهم كذلك الفنانون التشكيليون الذين كانوا يشرحون تجاربهم ويحللون تجارب زملائهم.

عادل السيوي

لقد نشأ هذا الواقع الجديد بفعل التحولات الاجتماعية- الاقتصادية التي يشهدها المجتمع العربي منذ تسعينيات القرن الماضي، وانعكاساتها الثقافية، لكن السبب الأساسي الذي أدى إلى اتساع الفجوة بين الفن التشكيلي والجمهور وتراجع الدور الثقافي للفن لمصلحة الدور الاقتصادي يعود إلى ضعف الثقافة الفنية المجتمعية، وهو ضعف تتحمل مسؤوليته جهات عدة من الأسرة إلى المؤسسة التعليمية والثقافية والإعلامية».

نهاية الحديث مع الناقد التشكيلي السوري "سعد القاسم" كان: «لقد راكم الفن التشكيلي العربي في مختلف حواضره على امتداد العقود الماضية تجارب غنية ووفيرة، ولكن علاقته مع جمهوره ظلت تشكو الوهن معظم الأحيان بسبب أن تطوره كان نتيجة إطلالته على الفن العالمي، وهي إطلالة لم يتح للجمهور أن يحظى بها، ولم يكن نتيجة لتطور ثقافة وذائقة هذا الجمهور، وفي حين تمتلك الكثير من التجارب الفنية العربية المعاصرة، وتجارب الشباب أهمية إبداعية وفكرية كبرى، فإن الفجوة التي تفصله عن الجمهور تبدو أنها باتساع، أكثر مما تبدو أنها نحو التناقص، وتزداد بالتالي أسئلة الهوية والعلاقة بالمحيط والانتماء إلى التراث وصولاً للسؤال الأهم حول امتلاك الفن التشكيلي العربي لهوية ثقافية موحدة، وهو سؤال يزيد صعوبة الإجابة عنه تباعد التجارب التشكيلية العربية عن الحوار البيئي وضعف معرفة الجمهور في بلد عربي بالإنتاج الإبداعي التشكيلي العربي في بلد آخر، وكيف لا؟ ما دامت معرفة الجمهور بالفن المنتج في بلده هي ضعيفة أصلاً؟».

ويشير الفنان التشكيلي المصري "عادل السيوي" إلى أهمية موضوع الفن وعدم تدخل مؤرخي الفن فيه بقوله: «إن موضوع الفن لم يعد مادة تخص علماء الجمال ومؤرخي الفن ونقاده، حيث إن الفاصل بين الكتابة عن الفن وأشكال الكتابة الأخرى ضاع وانفتح المجال أمام تداخل الأنظمة النظرية والأنساق المعرفية الأخرى، فالفن العالمي يعيش حالة من طغيان العروض الكبرى على المعارض العادية وتصدع الحدود بين أنواع الإبداع وضمور المرجعيات الفنية وظهور المرجعيات الفردية إضافة إلى تراجع دور التصوير الذي لم يعد فناً يحمل على عاتقه تطوير سائر الفنون فضلاً عن تعاظم دور التقنيات في إنتاج وتصور العمل الفني».