تزخر روح العمارة العربية الأصيلة بالكثير من القيم الحضارية، الإنسانية، العمرانية والعلمية، ورغم توجه العالم بأسره نحو الحداثة بمعالمه الموحدة، إلا أن مكنونات أرضنا العريقة تحول دون فقداننا الهوية الخاصة المتأصلة في جذور الأرض وشعبها، فدمشق القديمة تشكل نقطة جذب هامة للكثير من الأشخاص حول العالم تفصلهم آلاف الكيلومترات عنها ويجتازونها ليحظوا باكتشاف حضارات الشرق في سورية الحية برموزها وروحها تتنفس من خلال الأوابد والمعالم العمرانية التراثية.

موقع "eSyria" أجرى عدة لقاءات حول نمط العمارة التراثية في مدينة دمشق القديمة مع المختصين والمهتمين بهذا المجال، وهنا يحدثنا الدكتور "محمود السيد" نائب رئيس "مجمع اللغة العربية" عن أهمية الحفاظ على الممتلكات التراثية والحضارية في دمشق فيقول: «المحافظة على تراثنا المادي واللامادي يجب أن يكون من أولوياتنا، ذلك لأن التراث هو هوية الأمة وتراثنا العربي غني، شامل وعريق، لا يقتصر على فترة محددة إنما من بداية وجود الإنسان على الأرض خلف لنا آثارا هي جزء من كيان أمتنا ولابد لنا من الحفاظ عليها، فنحن نمتلك التراث المادي المتمثل بالأبنية والآثار الموجودة في بلادنا وعلى نطاق الساحة القومية الموجودة في جميع الدول العربية ذلك لأن هذه الآثار هي ما خلفه لنا الآباء والأجداد كتعبير عن أنماط تفكيرهم وهويتهم في هذه المجالات، إضافة إلى التراث اللامادي المتمثل بالثقافة في وجهها المعنوي بين اللغة، الحكايات، الأمثال والأساطير».

الأبنية في دمشق تعود لمراحل تاريخية قديمة كالرومانية واليونانية من جاءت المرحلة العثمانية وهي المرحلة الأكثر فاعلية في تاريخنا وصولا إلى المرحلة الفرنسية وكل هذه الفترات تصنف ضمن التراث الذي يمكننا إعادة تأهيله

كما التقينا الدكتور "محمد سعيد الحلبي" مستشار وباحث في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن قيمة تراث دمشق العمراني حدثنا يقول: «التراث العمراني تجسيد وترجمة للقيم الاقتصادية والاجتماعية، أي هو اختصار للعلاقات بين أبناء المجتمع، وهذه المعاني تتجلى بشكل واضح من خلال العمارة التراثية بمدينة دمشق في الأزقة القديمة حيث نجد التناغم والتلاقي بين المساكن ما يمنح صورة متكاملة لزائري هذه الأحياء عن حالة التكاتف، التعاون والتشارك بين سكان الحي لمواجهة مشكلات الحياة مهما كانت مناحيها».

الدكتور صالح لمعي مصطفى

يضيف "الحلبي": «البيوت الدمشقية القديمة كانت مخصصة لتلم شمل العائلة الكبيرة لاستدامة التقاليد والأعراف التي نشأ عليها الأجداد، فالبحرة في البيت القديم ليست مجرد أحجار مربعة ومستطيلة الشكل، بل هي كل ما يحيط بها من أفراح ومناسبات عديدة يحتفل بها أهالي دمشق، إضافة إلى متمماتها التزيينية من النباتات لتشكل بمجملها رمزا للنسيج الاجتماعي الاقتصادي في البيت، وكل تفاصيل هذا المنزل الدافئ تغذي النفس بمعاني الحب والحس الإنساني».

تشهد أحياء دمشق القديمة حاليا العديد من عمليات الترميم والصيانة والتي وصفها د."الحلبي" بالصحوة فيقول: «شغلنا لسنوات بزخم التطور دون أن نعي أهمية حضارتنا والقيمة التي تميز هذه المدينة التاريخية أقدم المدن عن المدن الحديثة، فقد تجاهلنا هذا التراث على مدى أكثر من خمسين عاماً لكن الصحوة حالياً قد بدأت وعلينا أن نعمل للحفاظ على ما تبقى، ومن معالم هذه الصحوة تحويل النظام العمراني التراثي إلى مقاه وفنادق وهي أشكال تخديمية مختلفة عن الشكل الأساسي لبنية المسكن العائلي».

الدكتور محمود السيد

أما المعماري "عبد الرحمن النعسان" رئيس جمعية المعماريين السوريين يقول خلال لقائنا به عن آليات الحفاظ على التراث المتبعة هذه الأيام: «ما يميز مدينة دمشق القديمة تاريخها المتعدد والمتراكم خلال عدة عصور، والحفاظ عليها من الأولويات الرئيسية للتراث القومي في سورية، وعموماً نشهد اهتماماً كبيراً من الدولة والمواطنين فلدينا قوانين حماية لهذه المدينة، حيث المدينة ضمن سور "دمشق القديمة" من المدن القديمة المحمية والمسجلة تاريخياً، لذلك نجد الجهات مجتمعة معنية بتفعيل هذا الموضوع، وشهدنا العديد من تجارب ترميم المباني القديمة كترميم "الجامع الأموي الكبير" الذي بدأ عام 1993 واستمر لمدة سبع سنوات وأعيد تأهيله، كما نشهد حالياً إعادة ترميم المكتبة الظاهرية لإرجاعها إلى ما كانت عليه وتفعيل الدور الثقافي فيها، ودعمها بكل ما يتعلق بالتقنيات الحديثة، إضافة للعديد من البيوتات والمباني القديمة التي أعيد ترميمها وتأهيلها من جديد لأن هذا العمل يحافظ بالدرجة الأولى على الإنسان في الأرض ويحافظ على تاريخ هذه الأمة، فعدم اهتمامنا بتاريخنا يفقد مصداقية الإنسان في الأرض».

يضيف "النعسان": «نجد اليوم جهات عديدة تدعم التنمية التراثية والثقافية التراثية كجامعة دمشق فكلية "الهندسة المعمارية" تهتم اهتماماً كبيراً بعملية التنمية والتثقيف حول موضوع التراث وهناك الكثير من المشاريع التي يقوم الطلاب بدراستها للتعمق في تاريخ مباني هذه المدينة ومواصفاتها، فمن المعلوم أن مباني دمشق القديمة وبيوتاتها تنتمي إلى مدرسة في العمارة الخضراء والتي نشهد توجها عالمياً لدراستها، أما مبانينا فكانت مهيأة بالحس والفطرة لتكون بيئية توفر شروط المحافظة على الهواء والنبات والماء والأرض، إضافة إلى التنوع في الفنون فعند مرورنا بأحد الأحياء القديمة في دمشق نجد البساطة المطلقة عبر الألوان والأخشاب الترابية، أما بدخولنا المنزل فنجد الغنى في الزخارف واللون، كما أنها منازل تحقق الفراغ مع السماء فهي بيوت رغم خصوصيتها بعدم اطلاع الجوار على الجلسات العائلية إلا أنها بيوت مفتوحة السقف على السماء، وهي بالمجمل تعكس نوع الثقافة والوعي المتحضر السائد في تلك الفترة».

كما التقينا المهندس المعماري "فايز حمصي" أستاذ في جامعة دمشق، كلية "الفنون الجميلة"، يقول عن تاريخ العمارة في دمشق: «الأبنية في دمشق تعود لمراحل تاريخية قديمة كالرومانية واليونانية من جاءت المرحلة العثمانية وهي المرحلة الأكثر فاعلية في تاريخنا وصولا إلى المرحلة الفرنسية وكل هذه الفترات تصنف ضمن التراث الذي يمكننا إعادة تأهيله». ويتابع "حمصي": «نشهد حالياً مظاهر إعادة التأهيل في دمشق القديمة من خلال تحويل المنازل القديمة إلى فنادق ومقاه ومطاعم إلا أنها تتسم بطابع تجاري، وبمقدورنا الاستفادة من كل هذا التراث بتحويله إلى مراكز ثقافية تجمع بين التراث والثقافة وإدخال الحياة الاجتماعية لإحياء المنطقة القديمة بأنماط سكنها وتقاليدها القديمة».

الجدير ذكره أنه أقيم بهذا الخصوص محاضرة بعنوان "المخطط العام للحفاظ على التراث العمراني بين النظرية والتطبيق في العالم العربي" ضمن سلسلة محاضرات "أربعاء تريم الثقافي" في قاعة المحاضرات الرئيسية بمكتبة الأسد، حيث ألقى المحاضرة الأستاذ الدكتور "صالح لمعي مصطفى" رئيس مركز "إحياء العمارة الإسلامية" في "مصر"، وتضمنت دراسته القيم المؤثرة في تقييم المباني التراثية، والتعاريف القياسية في إستراتيجيات التعامل مع التراث الثقافي بدءاً من الصيانة الدورية إلى عمليات أخرى متعـددة تضع الخطوط الرئيسية لعملية الحفاظ عليها، وعن ذلك يقول: «قبل البدء بعملية الحفاظ في المناطق التاريخية يجب تحديد الأهداف ووضع الحلول، مع العلم بأن كل منطقة لها ظروفها الخاصة حيث لا توجد حلول تقليدية يمكن تطبيقها في كل مكان، فلكل موقع ظروفه الاجتماعية، الاقتصادية، البيئية والعلاقات السكانية الخاصة به، ولذا فإن المشاركة الشعبية ركن أساسي في العملية التخطيطية».

كما تطرق د."لمعي" إلى نقاط محورية دارت حول: أهداف الحفاظ، المنهج التخطيطي، خطة إدارة وصيانة المباني التراثية، ويقول: «عملية التنمية العمرانية بالمناطق التراثية يجب أن يصاحبها عملية تنمية متواصلة حتى يلبي التراث الثقافي احتياجات السكان سواء في مجال التعليم والثقافة ويدعم التنمية الاقتصادية وكذلك تحسين وتطوير الحرفة اليدوية بهدف رفع المستوى الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي للمواطنين ووضع فهم أعمق لدور التراث في حياة الإنسان المعاصر، فصيانة المباني التراثية تهدف إلى منع فقدان أي عنصر من عناصر التراث الثقافي وهي عملية مستمرة وتحتم معايير تقنية وعملية في نفس الوقت».