تاريخ حافل مر به وطننا العربي، شهد تحولات عديدة، بعضها كان العرب فيه العنصر المؤثر فصنعوا تاريخ عروبتهم، ولا أدل على ذلك من حرب تشرين التحريرية وما أتى بعدها من مواقف سورية رافضة للهيمنة على الشرق الأوسط وتقسيمه، إضافة للمقاومة اللبنانية التي قهرت العدوان الإسرائيلي، وأيضاً الصمود الفلسطيني في غزة.. وما قدمته الجزائر من شهداء في سبيل تحررها.. وغيرها من حركات المقاومة العربية التي شكلت محطات لا بد من الوقوف عندها كأمثلة واضحة على أن العرب قادرون على صناعة تاريخهم.. إضافة لما يشكله الارتقاء الثقافي والحضاري من نقاط قوة تدعم الإنسان العربي في التحكم بمستقبله.

وهذا ما بدأ به الباحث الدكتور "مسعود ضاهر" من لبنان حيث قال: «انطلق رواد النهضة العربية من مناهج ثقافية متنوعة لكنهم اتفقوا على أن الإنسان العربي كائن حي يتم إعداده عاطفياً وثقافياً، فعلاقة الإنسان العربي.. أرضه.. وتاريخه.. وثقافته.. وتراثه مسألة ذاتية تنبع من الانتماء إلى حضارة عربية كونية وليست مستوحاة من تراث الغرب وثقافاته».

حقق العرب بنضالهم التحرري قاعدة صلبة لتحويل الوعي القومي إلى دول وطنية مستقلة، لكن الحنين إلى بناء دولة الوحدة القومية على أسس ديمقراطية ما زال حلماً صعب المنال

ويضيف حول المواجهات العديدة التي خاضها الإنسان العربي في هذا الإطار: «تبلورت مقولات العروبة الحضارية عبر التفاعل بين أجيال متعاقبة من الرواد العرب، واكتسبت مقولات العروبة النهضوية مصداقيتها في بلاد العرب من خلال البحث عن جذور الاستبداد، والتخلف، والتبعية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، ورفض الظلم الاجتماعي، فساهمت تلك المقولات في تعميق الوعي العقلاني بالتراث الإنساني لعروبة حضارية تسعى إلى بلورة عدد من المشاريع الثقافية وفق مشاريع رؤية مستقبلية تدعو إلى مشروع نهضوي جديد شديد الانفتاح على التكنولوجيا والعلوم العصرية».

الدكتور سامي مبيض

ويذهب لما تم على أرض الواقع بفعل الفكر العربي العروبي المقاوم فيقول: «حقق العرب بنضالهم التحرري قاعدة صلبة لتحويل الوعي القومي إلى دول وطنية مستقلة، لكن الحنين إلى بناء دولة الوحدة القومية على أسس ديمقراطية ما زال حلماً صعب المنال».

ويضيف: «أكدت مقولات العروبة الثقافية على أن التحدي الحضاري الذي يواجه العرب اليوم يتطلب الارتقاء بالوعي القومي إلى مستوى الرد الثقافي الحضاري الذي يضمن الحفاظ على ما هو إيجابي في تراث العرب الإنساني.

الدكتور مسعود ضاهر

وذلك يتطلب مقولات ثقافية تقاوم الاستعمار بكل أشكاله، خاصة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، فالعروبة الثقافية التي تنتج مقولات عصرية تتجه نحو المستقبل بنظرة إنسانية تحمي التراث والأصالة دون أن تعيق نشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة».

وبالوقوف عند دور ثقافة الإنسان العربي في تدعيم مفهوم العروبة صرح الدكتور "محمود السيد" نائب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق لموقع eSyria بالقول: «أعتقد أن صناعة تاريخ العروبة يتجسد بصناعة ثقافته، في تقديري من يريد أن يكتب عن تاريخ العروبة ينبغي أن يتوقف عند هذا الجانب طويلاً، لأن العروبة لم تكن لتعتمد لا الناحية الإقليمية ولا الناحية العنصرية ولا على الإثنيات ولا الأقليات، وإنما الجميع كانوا ينضوون في بوتقة العروبة، ولذلك فإن كل ما أنتج في هذا المجال ضمن هذه البوتقة لدعمها وإثبات وجودها المستمر هو نتاج ثقافي بحت بالمعنى الشامل للثقافة الذي يتضمن حكماً ثقافة المقاومة، وأعتقد أنه كان ضرورياً أن يتضمن المؤتمر دراسات لتحديد المحتوى على أرض الواقع، جميل جداً أن نعود إلى التاريخ وأن ندرسه ولكن الأجمل من ذلك أن ندرس الواقع العربي بإيجابياته وسلبياته».

الدكتور نجاح العطار - نائب الرئيس

الدكتور "جورج قرم" وزير المالية الأسبق في لبنان أفرد سرداً عن الثورات التي بلورت مفهوم العروبة وساهمت في إيجاد تآلف عربي أو تضامن عروبي، وضرب مثالاً على ذلك: الثورة الجزائرية، وتأميم قناة السويس في مصر، معتبراً إياها من الأحداث التي وقعت فغيرت التاريخ، وهي جزء من سلسلة الإشراقات التي مرت بها العروبة والقومية العربية

وأشاد بانتصار المقاومة اللبنانية في حربي عام 2000 وعام 2006، ومن ورائه الصمود السوري في وجه الضغوطات الكبيرة والعديدة التي واجهتها سورية والمنطقة، وصمود غزة رغم كل الدمار الذي أحدثه العدو الإسرائيلي فيها، مشيراً إلى أن هذه المقاومة أحبطت مخططات مفترضة لإعادة تشكيل المنطقة من قبل أعداء العروبة، وشكلت حلقة جديدة من حلقات صناعة التاريخ العربي، مبلورة مبادئ ترفض الفكرة القائلة بأن الآخرين هم الذين يصنعون تاريخنا العربي.

ونبه الدكتور "قرم" إلى الانقطاع الحاصل بين الجيل الجديد الشاب وبين تاريخه الأصيل والذي مر بفترات ازدهار استفاد منها العالم كله، وطالب ببناء منظومة معرفية تعتمد على التراكم المعرفي لردم هذه الهوة بين التاريخ واتجاهات الشباب، ودعا إلى الاهتمام أكثر بإصدارات الكتب التي تغني جيل الشباب وتجيب على أسئلته حيال ماضيه وحضارته التي صنعها أجداده، لتكون قاعدة متينة لانطلاقته للمستقبل.

الدكتور "سامي مبيض" من سورية تحدث عن الفرق بين مفهوم التاريخ ومفهوم التأريخ، وما يتأتى من العلاقة بينهما فقال: «هناك فارق بين التاريخ والتأريخ، من يكتب التاريخ يكتبه بطريقة حيادية ومن يمارس التأريخ يكتب التاريخ من وجهات نظر، قد تكون غير موضوعية وقد تكون بحاجة إلى نضج أكبر، مشكلتنا مع التاريخ بأننا مارسنا التأريخ لمرحلة العروبة بحيث أننا حاولنا أن ننظر إليها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى بأنها كانت كلها عبارة عن نور وعبارة عن تطور فكري وسياسي وعمراني، نحن بحاجة اليوم أن ننظر إلى الوراء بطريقة موضوعية، لنقرأ مرحلة العروبة منذ الثورة العربية الكبرى عام 1916 مروراً بالرئيسين "جمال عبد الناصر" و"حافظ الأسد" لنرى أين نجح المشروع؟ وأين يحتاج لأن نطور فيه ليتلاءم مع المرحلة الجديدة، نحن الآن في العام 2010 وأعتقد أن مشروع الوحدة السورية المصرية الذي أتى على ذكره الجميع عمره أكثر من 50 عاماً، ومرحلة "فيصل الأول" عمرها 90 عاماً، أما أجيال اليوم الذين يشكلون محرك الرفض والكتابة والشارع هم من مواليد 1990- 1992 هذا الجيل وجد ما بعد تحرير الكويت وعاصفة الصحراء، لذلك نحن بحاجة لأن ننظر للعروبة بطريقة عصرية لتطوير الفكر العروبي لنستطيع الوصول إلى الأجيال المستقبلية».

وانطلاقاً مما ذكره الدكتور "مبيض" حول الطريقة العصرية لتطوير الفكر العروبي وفي سياق مكمل تطرق الأستاذ الدكتور "كمال عبد اللطيف" لمفهوم "العروبة والتحديث السياسي" فقال: «إذا سلمنا بجدوى المشروع القومي، يلزمنا أن نقتنع تماماً بأن الحدود التي بلغها الخطاب القومي في العقد الأخير من القرن العشرين تتطلب إنجاز محاولة في إعادة بناء هذا المشروع، إعادة بناء خطابه، وذلك بصياغة أسئلته المركزية، وأطروحاته الرئيسية، والمفاهيم القاعدية التي ينسج بوساطتها دعاويه وحججه، ليواجه التحديات القائمة، والتحديات التي تتناسل في محيط المجتمع العربي».

ويقول أيضاً: «صحيح أن إنجاز ثورة ثقافية في فكرنا يتطلب جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية والعلمية التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أن هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحققه في المدى الزمني المتوسط، لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة والمتمثلة في مشاريع الترجمة ومشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد.. الخ، فنحن نعتقد أن هذه المعارك تعتبر الممهدات التي تعبد الطريق المؤدي إلى باب تحرير الأذهان».

يذكر أن محور "العروبة والتاريخ" ومحور "العروبة والحداثة" هي من المحاور التي تم طرحها في اليوم الثالث من مؤتمر "العروبة والمستقبل" الذي يقام في دمشق بين 15- 19 أيار 2010 الذي دعت إليه الدكتورة "نجاح العطار" نائب رئيس الجمهورية العربية السورية لبحث واقع العروبة واستشراف مستقبلها باعتبارها الرابط الجامع والمكون الأساس الذي يربط بين أبناء الأمة في ظل ما يتعرض له المصير العربي من تحديات ومحاولات تستهدف تفتيت العرب وتفريق كلمتهم.