لا شك أن "العروبة" مفهوم مبني على أسس تاريخية وجغرافية وقومية... إضافة إلى الأساس اللغوي، فلغتنا العربية واجهت وتواجه العديد من المحن التي تهدد ماهيتها وقوة ارتباط أبنائها بها، وهي بذلك لا تواجه تلك المخاطر منفردة بل إن ذلك يهدد مفهوم العروبة أيضاً ويحاول النيل منه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الترابط الوثيق بين المفهومين "العروبة واللغة العربية" إلى درجة التوحد، وما انتماء الإنسان العربي إلى عروبته إلا انتماء للغته والعكس صحيح.

وحريّ بنا إذا ما أردنا الخوض في عوالم العلاقة بين "العروبة واللغة العربية" أن نتوجه إلى أصحاب الاختصاص ومنهم الدكتور "ممدوح محمد خسارة" "عضو مجمع اللغة العربية بدمشق" فحدد مقاربات ثلاث حولهما وهي: العروبة لغة.. واللغة هوية، العروبة إطار وفضاء جامع، والتماهي بين العروبة واللغة العربية، فبدأ مقاربته الأولى مستشهداً بما جاء في الحديث الشريف: «ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي، ألا إن العربية اللسان».

ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي، ألا إن العربية اللسان

وهنا يقول "د. خسارة": «ولا يظننّ ظان أن المقصود بالعربية هنا اللغة العربية، فالمقصود هو "العروبة"، وهذا يدل دلالة لا تقبل التأويل على أن العربية هي العروبة، وإنها تعني الانتماء إلى لغة العرب، ولكن هذا الانتماء إليهم ليس من طريق الدم أو النسب، وإنما من طريق اللغة واللسان، وأن العربي من كان أو صار لسانه عربياً بصرف النظر عن العرق».

د. ممدوح خسارة

ويذهب "د. خسارة" في مقاربته الثانية- التي رأى العروبة فيها تشكل إطاراً وفضاء جامعاً- إلى ضرورة التفريق بين مفهوم العروبة ومفهوم القومية العربية حيث يقول: «العروبة مفهوم عمومي جامع في حين مفهوم القومية العربية مخصص ومحدد. إذ القومية معتقد سياسي فكري يتمحور حول الوحدة العربية أولاً. ونحن إذ نتحدث في هذا المقام عن مفهوم العروبة تعميماً لا القومية العربية تخصيصاً نريد أن تكون فكرة العروبة بما هي إطار لغوي وفضاء ثقافي بمنأى عن التجاذبات الحزبية السياسية. إن هذه العروبة الإطار قابلة لأن تملأ بالمحتوى الحضاري والمضمون الثقافي الذي نريد ما دام معبراً عنه باللغة العربية».

وفي مقاربته الأخيرة يؤكد على التماهي بين العروبة واللغة العربية بقوله: «هذه اللغة التي تماهت في مفهوم العروبة في المراحل الحضارية السابقة للأمة، يجب أن تكون متماهية مع مفهوم العروبة لهذا العصر، وهي قادرة على ذلك، والذي نراه أن معظمنا يريد لعروبة اليوم أن تكون عروبة أصيلة لا هجينة، ومعاصرة لا تاريخية، وشعبية لا نخبوية، وديموقراطية لا تسلطية، ومقاومة لا مساومة، ومستقبلية لا ماضوية. فكيف نجعل من لغتنا صورة معبرة عن عروبة اليوم كما كانت معبرة عن عروبة الأمس؟».

الدكتورة نجاح العطار تتابع كامل الجلسات

الدكتور "محمود السيد" نائب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ووزير الثقافة السوري الأسبق يقول: «ليست العروبة قومية متعصبة ضيقة، وإنما هي قومية إنسانية، وإن لغة هذه الأمة تحمل رسالة إنسانية، وعندما واجه العرب توسع الدولة الإسلامية وانتشار العرب في بقاع الأرض لم يكن لهم بها عهد من أجناس ولغات وأديان وحضارات متعددة، وكان ذلك حرياً أن يلتهم هذه اللغة التي خرجت من نطاق ضيق وإطار محصور في الجزيرة العربية، ولكن اللغة العربية ازدادت اتساعاً في ميادين المعرفة وانتشاراً في أرجاء العالم، فاحترمت الثقافات الأخرى واقتبست منها، وسرعان ما صارت لغة الإدارة والعلم والثقافة لأهلها والعالم آنذاك».

وتطرق "د. السيد" إلى أهم أسباب صمود اللغة العربية بعد سلسلة غير منقطعة من المحاولات لإضعافها وهجران أبنائها لها يتحدث: «إلى جانب الأصالة والمناعة التي جعلتها قادرة على البقاء متحدية كل وسائل النيل منها، والتي يسرت للعربية أن تطوع الثقافات القديمة لها من فارسية وهندية ويونانية من غير أن تنزل عن أصولها وقواعدها وسماتها، فإن السبب في صمود اللغة العربية أيضاً يعود إلى القرآن الكريم الذي يعد سياجاً للعربية حافظ عليها من الضياع وصانها من الاضمحلال والزوال».

الدكتور محمود السيد

أما أهم العوامل التي حاولت تضييق الخناق على لغتنا فتحدث عنها بقوله: «الجهات المعادية لأمتنا تعمل على إبعاد الطابع العربي الذي يميز الشخصية العربية وثقافتها، فعملت مجدداً على النيل من هذه اللغة عندما تتهمها بالصعوبة والجمود والتخلف وعدم مواكبة روح العصر، وعندما تروج للعامية على أنها لغة الحياة وليست الفصيحة، وعندما تدعو إلى تعليم العلوم باللغات الأجنبية بحجة قصور الفصيحة عن استيعاب النهضة العلمية، فإنه من الواضح أن الأهداف البعيدة لهذه الدعوات هو تفتيت الأمة العربية وترسيخ التجزئة والانفصال بين أقطارها، وإبعاد ماضيها عن حاضرها كي لا يكون عاملاً إيجابياً لها للمضي في دروب الإبداع والابتكار».

ويخلص الدكتور "السيد" إلى ضرورة اتخاذ عدد من الإجراءات العاجلة والملحة على نطاق الساحة القومية ومن أهمها حسم موضوع التعريب بالقرار السياسي الملزم فيقول: «كفانا تلكؤاً وتسويفاً، لا يتم فكر ولا علم من غير لغة ذاتية له،

ويبقى الفكر العربي ناقصاً وغريباً إذا لم يقرأ ويكتب ويفكر فيه بالعربية».

ويختم بالقول: «إن العروبة ليست رداء نرتديه ساعة نشاء ونخلعه ساعة نشاء، إنها قدرنا ولون عيوننا ولحمنا ودمنا وكياننا، وهي منظومة من القيم، وهي الرابطة والانتماء والهوية التي تعبر عنها اللغة العربية، وإننا في أمس الحاجة في ظل هذه العولمة المتوحشة إلى تعزيز الانتماء إلى عروبتنا ولغتنا».

رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق الدكتور "مروان المحاسني" تساءل إن كان الوعي العربي في أزمة جديدة، أم أننا نواجه أزمة حقيقية لإيجاد تطابق مستمر بين لغتنا وبين حضارة غازية تحمل حقائق الحاضر، وهي قادرة على استكشاف مقومات عالم المستقبل؟ ويضيف: «إن العلاقة العضوية الوثيقة القائمة بين حضارتنا ولغتنا تحول دون انزلاقنا في قطيعة معرفية مع تراثنا الحضاري، إذ أنه متجذر في لغتنا، ولغتنا وحدها هي القادرة على فتح مغاليق تاريخنا الفكري، بما يتيح لنا استخلاص الفوائد والعبر من ذلك الصرح العلمي والفلسفي والإبداعي الذي يقر الغرب بأنه بنى حضارته عليه».

ولفت الباحث المحامي "ماهر العطار" عضو رابطة الحكمة لتمكين اللغة العربية والتراث العربي والتاريخ العربي إلى الأزمة التي تواجه الجاليات العربية في بلاد المهجر، متسائلاً عمن يعلـّـم هؤلاء المغتربين لغتهم الأم حيث قال: «الجاليات العربية جزء لا يتجزأ من مفهوم العرب والعروبة، وهم يعانون من القطيعة الحاصلة بينهم وبين جذورهم، فلماذا لا تتركز جهود المعنيين في الدول العربية في هذا المنحى؟ والعمل على إرسال مدرسين اختصاصيين يعلمون اللغة لأبنائنا هناك، خاصة أن الكثيرين منهم باتوا لا يتحدثون بها الأمر الذي يشكل خطراً يتعاظم مع مرور السنين، ولا بد من التنبه له واستدراك تلك المشكلة بالحلول الناجعة، وهي ليست صعبة».

وتطرق إلى موضوع انتشار اللهجة العامية عبر الدراما التلفزيونية وبرامج الفضائيات، مطالباً اتحاد إذاعات وتلفزيونات الدول العربية ووزارات الإعلام في الوطن العربي بتقديم نصوص المسلسلات والبرامج باللغة العربية الفصيحة.

الدكتور "كمال حمدان" من لبنان عبر عن خشيته مما قد ينسحب في مخيلة البعض أن حماية وتطوير اللغة تتم عبر قرارات وإجراءات وتوجهات إدارية أو سياسية أو تنظيمية، يقول: «رغم أهمية اتخاذ مثل هذه الإجراءات ولكن باعتقادي أن المشكلة الأهم هو تبسيط المشكلة، وأود أن ألفت النظر إلى أن مشكلة اللغة هي مشكلة نوعية التعليم، ونوعية نظامنا التعليمي العربي، وهي مسألة يجب أن تشكل محور اهتمام الدول العربية أكثر من مسألة نسب المتعلمين، أي مسألة النوع والكم.

وأعتبر أن اللغة تعاني من مشكلة بنيوية بسبب خصائص الاقتصاد العربي القائم على الوكالات التجارية وعلى الدخل الريعي والمنشآت البسيطة والاستهلاكية فهذا الشيء يفسح المجال للدول التي نستورد منتجاتها وصناعاتها وخدماتها أن تفرض علينا لغاتها وثقافاتها أيضاً، وأضرب مثلاً بلدي لبنان يستورد بقيمة 15 مليار دولار بينما يصدر بمليارين، فلماذا نستغرب عندما نرى أن 70 % من لافتات محالنا التجارية مكتوبة بلغة أجنبية وتحمل معانٍ لا تمت للعرب والعروبة بصلة، هذا جزء من مصالح اجتماعية طبقية بنيوية لها علاقة بخصائص اقتصادنا العربي ككل».

ويضيف "د. حمدان" قائلاً: «مشكلتنا أننا انتقلنا من المرحلة الرعوية والزراعية إلى المرحلة الخدمية، متجاوزين المرحلة الصناعية التي برأيي تلعب دوراً هاماً في الحفاظ على اللغة، لا بل وتطويرها مع كل منتج صناعي عربي نقدمه حاملاً تسميته العربية».

يذكر أن "مفهوم العروبة واللغة" كان أحد المحاور التي تم طرحها في مؤتمر "العروبة والمستقبل" الذي يقام في دمشق بين 15- 19 أيار 2010 الذي دعت إليه الدكتورة "نجاح العطار" نائب رئيس الجمهورية العربية السورية إلى بحث واقع العروبة واستشراف مستقبلها باعتبارها الرابط الجامع والمكون الأساس الذي يربط بين أبناء الأمة في ظل ما يتعرض له المصير العربي من تحديات ومحاولات تستهدف تفتيت العرب وتفريق كلمتهم.