تعتبر دمشق مكانا غنيا ومتنوعا بسكانه وعاداتهم وأهوائهم ولهجاتهم، وفي حاراتها وأحيائها سحر غريب، كأنها قطعة من "بازل"، تشكل النسيج الدمشقي أو اللوحة الدمشقية الفريدة من نوعها.

ولا يعني الاختلاف الفرقة، بل يعني الغنى والتمسك بالأصيل، حيث كان (الحي) وحدة اجتماعية مميزة، ولا شك في أن هناك صفات مشتركة بين أبناء المدينة نفسها، ولكن يبقى لكل حي صفاته الخاصة به، وأحياناً لهجته الخاصة.

فالشاغوري، نزق وفي لهجته حرارة، وكان أهل الشاغور يفخمون الرقيق من الكلمات، فيقولون (الرصول بدلا من الرسول) و(قطعة صلاح بدلا من سلاح).

والميداني كان يقال عنه أن (إصبعه تخينة)، دليل أنه وازن ويعطي لنفسه ثقلاً مبالغاً فيه.

والقيمرية كانت تسمى الهند الصغيرة، غنية بأعاجيبها وتنوعها.

وسوق ساروجة، اسطنبول الصغيرة، وخاصة حارة قولي.

وللصالحية ينسب الكلام الرخو، مثل (السمس بدل الشمس) و(الزوزة بدل الجوزة).

وإذا دخلت حارة المغاربة، فالكلام الجزائري والمغربي يطل عليك بلهجته الحادة والسريعة النزقة، فيخيل إليك أنك في شوارع فاس أو مكناس أو القصبة في الجزائر، ليس في الكلام فقط، إنما في الطباع الحادة، والنكتة المشهورة عنهم في دمشق تقول أن رجلاً قال لمغاربي: إنت منظوم وشهم وابن حلال، لولا فيك هذه العلة؟

قال له بحدة ونزق: وسنو هيه؟؟

أجابه: هي هيه.

ولكثرة المهاجرين الأتراك فيها، كانت التركية غالبة على العربية في حي المهاجرين.

أما الأكراد، فحديثهم بالعربية مليء بخفة الدم، وهم يرققون المفخم من الكلام فيقولون (ننبست بدل ننبسط) و(تلعه بدل طلعه)، وطباعهم فيها بساطة إنسانية محببة.

والأرمني مثل التركي تماما، يخطئ بإنتظام شديد في المذكر والمؤنث، فكل مذكر يخاطبه بالتأنيث وكل مؤنث يخاطبه بالتذكير، لأن لغتهم خالية من المذكر والمؤنث، وكان أكثر وجود الأرمن بحي (الزبلطاني)، خارج السور وقريبا منه.

و تختلف لهجة أهل القصاع وباب توما عن سائر أهل المدينة، هي مزيج من لهجات أهل القرى، الذين جاؤوا منها وسكنوا دمشق، لاسيما في هذه المناطق.

كما كان اليهود (يمطون) آخر الكلمات، بحيث يختفي آخر حرف من الكلمة، فيقولون ( لكااااا بدل لكان)، وهذا يعود الى خبث اليهودي المعروف، بحيث يمكنه التهرب من الكلمة أو التفكير فيها أثناء اطلاقها، وذلك بأن يمطها، وقد انتشرت هذه اللهجة مع قدوم أفواج جديدة وضخمة إلى دمشق، منذ منتصف الخمسينات - 1955-ومحاولتهم الاندماج بالمجتمع الدمشقي.

ولدمشق أحياء بعيدة عنها بالمسافة وقريبة منها بالروح، فلقد كان القابوني، أي ساكن حي القابون، صاحب نكتة ومدرج لقب على الأشخاص، بدءا من (الكاوتشوك) وانتهاء (بكوبايه)، فضلا عن كلماته البسيطة التي يرحب بها بالآخر "مرحبا عم "، تشرب "مي"، و"ليكو جايه".

والهجرات المتلاحقة لم تنقطع إلى دمشق، لكنها كانت هجرات فردية وعائلية على الأكثر، ولم نشهد هجرات جماعية إلا في منتصف الستينات، حيث أخليت ضياع بشكل شبه كامل، لتحتل أطراف دمشق.

أما الهجرات التي كان أكثرها عائلي، فقد انتظم أفرادها في مهنة خاصة بهم، ففي بعض مناطق الشيخ محي الدين نجد المخللاتية (صانعي المخلل بأنواعه)، وكانوا من ضيع الساحل، ويقال أنهم جاؤوا من لواء اسكندرون بفترة الاحتلال الفرنسي، والخبازون أكثرهم من معلولا، وسائقو السيارات الشاحنة وأصحابها من صيدنايا، والنحاتون والمعماريون من التل ومنين.

وكان نجارو الموبيليا وصناع الأعواد الموسيقية والموزاييك أكثرهم من نصارى القصاع، وأكثر سكان حي الأمين والجورة يعملون في النسيج والنول، وأكثر الصاغة والنقاشين من اليهود والنصارى.

واشتهر اليهود بجمع الملابس القديمة وتجارتها، وبمهنة (القنياطي) التي هي تنظيف حفر المياه الآسنة، حيث لا توجد المجاري، وقد تكون الكلمة مشتقة من الأقنية وتنظيفها.

وفي التجارة نجد تجارة الحبوب والأغنام في الميدان، وتجارة مال القبان (مواد الطعام الأولية)، في القيمرية، أما الحرير والديباج والجلود بكل أقسام صناعتهم فكان في الشاغور.

هكذا دمشق، مدينة الغرائب والعجائب، مدينة الأقاصيص والحكايات القديمة، أرض الحب والغضب، أرض الرسالات، أرض التعايش.