قامة ثقافية علمية غنية عن التعريف، ومن أهم دارسي تاريخ "سورية" القديم، تتلمذت على يديه أجيال نهلت من خبرته العميقة، ولم يقتصر تأثيره العلمي والبحثي على التدريس والإشراف على الدراسات التاريخية، بل شمل مجال التدقيق التاريخي للأعمال الدرامية التاريخية.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 5 كانون الثاني 2019، مع "يارا توما الجابي"؛ وهي مدرّسة في مركز "فخري البارودي" وحاصلة على ماجستير "الترميم وإعادة التأهيل"، التي تقول عن المؤرخ الراحل: «الدكتور "محفل" موسوعة بشرية، عرفته عام 2007 كمدرّس لمادة تاريخ العمارة في مركز "البارودي"، وهو مقرّ ماجستير ترميم المباني التاريخية وإعادة تأهيل المواقع الأثرية التابع لجامعة "دمشق"، كان يدرّسنا مرة في الأسبوع، وبعد انتهاء الحصة كان يتناقش مع الطلاب ويحاورهم، أو يصحح مشاريع التخرج، ويجيب عن أسئلة الطلاب حول أي موضوع يتعلق بتاريخ "سورية"، واستمر بالتدريس حتى قبل وفاته بأسبوعين، وقبل شهر تقريباً من وفاته عن عمر يناهز التسعين عاماً، زار كلية هندسة العمارة للإجابة عن أسئلة الطلاب، استمر بالتدريس في الماجستير إحدى عشرة سنة، وهو أستاذ أستاتذتنا في المركز، فالمسؤول عن الماجستير حالياً الأستاذ "ياسر الجابي"، الذي قام الدكتور "محفل" بتدريسه مادة تاريخ العمارة قبل أربعين سنة تقريباً، كنت أحضر دروسه على مدار السنوات وكأنني طالبة من طلابه لأنهل من علمه، أمله الحفاظ على التراث السوري، وهذه رسالته لطلابنا في المركز القادمين من كافةً أنحاء "سورية"».

هو أستاذنا في جامعة "دمشق"، كان راقياً جداً ونبيلاً في التعامل مع طلابه، ويتقبل أي سؤال نطرحه عليه بابتسامة جميلة، عرفته منذ أمد بعيد عام 1975، وله كتب قيمة جداً تتناول التاريخ السوري

وعن الراحل كإنسان ومؤرخ تتابع حديثها قائلةً: «هو إنسان معلم، ومن المعلمين الكبار الذين سيذكرهم التاريخ، كان يسأل عن أحوال طلابه وعائلاتهم بكل حب، ويتقن العديد من اللغات، وهي: (العربية، الفرنسية، الإنكليزية، الروسية، والقليل من الألمانية، إلى جانب اللغات القديمة "الآرامية، اللاتينية") وغيرها، وهو عضو في مجمع اللغة العربية، ومؤسس معهد تدريس اللغة الآرامية الكائن في "معلولا"، وعندما يطلب أحدهم منه معلومة ما، كان يذكر اسم المرجع، والمؤلف، وتاريخه، عقله يقظ حتى اللحظة الأخيرة ولديه إيمان كبير بـ"سورية" والسوريين وحضاراتهم، ولا يمكن لأحد مناقشته بذلك، وهذا الإيمان نقله إلى طلابه، ومن أهم أقواله التي نكررها: (نحن بنات مدن منذ الأذل)، (لو كانت "تدمر" رومانية لوجدنا مثلها في "روما" تدمر مدينة سورية)، و(المدن المنسية دليل على حياة الفلاح السوري الراقية)».

الراحل مع "يارا توما الجابي"

وأضافت: «قام أيضاً بتدقيق السيناريو لمجموعة من المسلسلات التاريخية، منها: "صقر قريش"، "ملوك الطائف"، "ربيع قرطبة"، "طالع الفضة"، "صلاح الدين"، بموته خسرنا مرجعية لا تعوض، وأقل ما يقال عنه إنه حارس التاريخ السوري، ومكتبه وكتبه في "بيت البارودي"، ومن مؤلفاته "تاريخ الرومان"، "تاريخ اليونان"، "تاريخ العمارة"، "دمشق: الأسطورة والتاريخ"، "من ذاكرة الحجر إلى ذكرى البشر"، وغيرها».

من جهته "بشار شوفان" أحد طلابه نعاه يوم وفاته قائلاً: «ترجل اليوم فارس اللغة عن صهوة التاريخ، وحملته حروفها التي عشق إلى الفردوس الأعلى، فمن "شهباء" العز إلى "شام" المجد ستبقى ذكراك ناقوساً أبدياً يطرب كل عشاق هذه الأرض، وستبقى أنت خالداً كحجارتها، وقد حفرت اسمك في سفر "دمشق" "الأسطورة والتاريخ"، لتبقى دائماً في "ذاكرة الحجر والبشر"، "دمشق" تنعي علامتها، وشيخ مؤرخيها، وعراب لغتها».

وسام الاستحقاق من قبل "نجاح العطار"

من جهته الفنان التشكيلي والمحاضر في كليات العمارة والفنون الجميلة "سرور علواني" يصف طريقة تعامله أثناء المحاضرة قائلاً: «عهدته أستاذاً لتاريخ الحضارات عندما كنت طالباً في كلية "الفنون الجميلة" عام 1977، أو عام 1978 على ما أذكر، فمنذ دخوله قاعة التدريس يخلع ساعته ويضعها جانباً، ليبدأ محاضرته، وكأنه على المسرح، ويسرد الحكاية مع نظرات سريعة إلى الطلبة بين الفينة والأخرى لملاحظة تفاعلهم مع الدرس، ويتمم حديثه وكأنه أحد عناصر تلك الحضارة التي كانت موضوع المحاضرة، فكان يأخذنا في رحلة إلى عمق التاريخ، ويصور لنا بحديثه وكأننا في فيلم سينمائي مرفقاً بصوته الجهوري العميق، وتفاعل مفرداته مع أي حدث يشرحه لنا، هذا ما أذكره عن العملاق، وأهم علماء التاريخ واللغويات في "سورية"، لم يكن يتابع تفقد أسماء الحضور، ويسمح لأي طالب أن يبرر غيابه ببساطة، حيث نبه في محاضرته الأولى قائلاً: (لن أجبر أحداً على الحضور؛ فمن لا يحضر برغبة منه لن يفهم المحاضرة حتماً، لذا ليمضي وقته في عمل آخر حتى لا يكون عنصر تشويش على تسلس أفكاري، ومبارك عليه مغادرته المحاضرة)، حيث سيتمكن الطلاب من سماع المحاضرة بفهم، وديمومة أكبر، هو أنموذج فريد من المدرسين، سيبقى في الذاكرة قديراً لا يركن لاستراحة، يقيناً منه بأننا سنستريح كثيراً عندما نغادر هذه الحياة، رحمك الله في استراحتك الأبدية، وعلمك وسلوكك، وإخلاصك، وكله إن شاء الله في ميزان حسناتك».

الباحث التاريخي "عماد الأرمشي" يقول عنه: «هو أستاذنا في جامعة "دمشق"، كان راقياً جداً ونبيلاً في التعامل مع طلابه، ويتقبل أي سؤال نطرحه عليه بابتسامة جميلة، عرفته منذ أمد بعيد عام 1975، وله كتب قيمة جداً تتناول التاريخ السوري».

مع طلابه

يذكر، أن المؤرخ الراحل "محمد محفل" ولد في "حلب" سنة 1928، حاصل على إجازة في التاريخ عام 1949، ودبلوم في التربية وعلم النفس عام 1953، ودكتوراه في التاريخ القديم من جامعة "السوربون" الفرنسية، حاصل على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، بمرسوم رقم (191) بتاريخ 5 حزيران 2012، عمل مدرّساً في قسم "التاريخ" بجامعة "دمشق"، وفي كليتي "الفنون الجميلة" و"هندسة العمارة"، إضافة إلى عمله مدرّساً زائراً في جامعة "عمان" في "الأردن" من عام 1968 حتى عام 1971، وفي عام 1994 أسهم في تأسيس لجنة كتابة التاريخ العربي، وكان أمين سرّ فيها حتى عام 2003، إلى جانب رئاسة تحرير مجلة "دراسات تاريخية" المحكمة، وحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الدراسات الإسلامية في "كراتشي" بتقدير ممتاز، توفّى بـ"دمشق" بتاريخ 2 كانون الثاني 2019.