وضع "فوزي الغزي" أول مشروع لدستور نموذجي للجمهورية العربية السورية عام 1928 مع عدد من رفاقه المحامين في الجمعية التأسيسية، فلقب "أبو الدستور"، وحث على حمل سلاح العلم ورأى فيه السبيل الوحيد لنيل الاستقلال، غير أن وفاته المبكرة لم تسعفه لمتابعة الحلم.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 25 أيار 2015، "سماح فاهمة" محامية ومهتمة بتاريخ القانون؛ التي تحدثت عن المحامي المعروف "فوزي الغزي"، وتقول: «عرف بلقب "أبو الدستور السوري"، حيث جاء الدستور الذي وضعه متكاملاً وملبياً لتطلعات الشعب، وتميز بالدقة والاهتمام من ناحية حقوق المواطن وطرائق الانتخاب وفصل السلطات وسلطة رئيس الدولة، وذلك لفراسة "غزي" القانونية ودخوله المعترك السياسي ضد الانتداب، حيث إنه وعلى الرغم من ظروف الاحتلال التي كانت تعانيها البلاد، إلا أنه استطاع الدفاع عن حقوق المواطن وتطبيق نظرية العقد الاجتماعي، وكان يتطلع إلى وطن حر ديمقراطي يحكمه القانون وله علم مستقل وأرض محددة، وعلى الرغم من مرور عدة عصور على إنشاء ذلك الدستور، إلا أن قواعده بقيت هي المرتكز الأول لأي دستور في أيامنا هذه، ويبقى "الغزي" الناظم لأوتاره».

يبكيك أحرار سورية وأنت أخ.. يبكيك دستور سورية وأنت أب من للصعاب إذا اشتدت معاضلها.. من للخطابة يا ملسان من خطبوا كــهوف أرواد مدت بيننا نســباً.. يا حبذا السجن، بل يا حبذا النسب حرّ الجزيرة أذكــى من مودتنـا.. فــزاد حرّ قلوب حشـــوها لــهب أخا السجون، أخا المنفى، أخا وصباها.. فرق الموت ما قد ألف الوصيب

وفي لقاء مع الباحث التاريخي "عماد العاني" يقول: «كان "فوزي الغزي" لا يساوم على أمر يخص الوطن، ولم يسعَ في كل مواقفه وأفعاله إلى مكسب مادي أو معنوي، كان يهدف فقط إلى صون وحماية ورفعة وطنه، وكان موضع عشق وحب من جيل الشباب وخاصة من أبناء "سورية" و"لبنان"؛ فقد كان دائم التواصل مع محبيه من خلال المحاضرات التي كان يلقيها أو المقالات التي يكتبها في الصحف السورية واللبنانية، وهذا كله جعله هدفاً للانتداب الفرنسي، فتعرض للسجن والملاحقة والنفي، وورث من ذلك الأمراض الجسدية التي لم تفارقه، وعداوة الحساد وضعيفي النفوس ممن حوله من أبناء الوطن.

المحامية سماح فاهمة

أحب "فوزي الغزي" العلم، باعتباره سبيل الخلاص من الجهل والمحن، فأعلى سلاح الكلمة على سلاح النار، وامتلك سرّ الكلمة؛ فكان في خطبه يعبئ الجماهير ضد الطغاة والمحتلين، وكان من القائلين بالسياسة الإيجابية ليبرهن لجمعية "الأمم المتحدة" آنذاك وللرأي العام الأوروبي أن السوريين طلاب حق بالعلم والكلمة أيضاً، وأنهم يعتلون منابر السياسة شاهرين سيف الحق في وجه من يريد بهم سوءاً».

وعن مسيرته الشخصية يخبرنا "العاني" بالقول: «ولد "فوزي الغزي" في "دمشق" عام 1891م، درس في مدارسها، ثم التحق بالمعهد الملكي العالي في "الأستانة" لدراسة الحقوق، وبعد تخرجه عين ضابطاً في الجيش العثماني، فحارب في صفوفه خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أصيب في أذنه، وفي عام 1918م اختارته حكومة الملك "فيصل" قائم مقام "راشيا" و"حاصبيا" على التوالي، ثم عين بعد استقالته أميناً لسر وزارة الداخلية، وبعدها ترك العمل الحكومي وعمل في المحاماة في فترة الانتداب الفرنسي لـ"سورية"، ليتابع دراسة القانون الدولي في معهد الحقوق في "دمشق"، وقد اختير عام 1921م ليحاضر في القانون الدولي بكلية الحقوق في "الجامعة السورية"، ثم دخل المعترك السياسي، مقاوماً عنيداً ضد المستعمر الفرنسي لبلاده، ونظراً إلى نشاطه اعتقل 1925م في سجن قلعة "أرواد"، ونفي بعدها إلى "الحسكة"، وبعد الإفراج عنه نفي مرة ثانية إلى منطقة "الحدث" في "لبنان"».

من المهرجانات الانتخابية في دمشق

ويتابع: «بعد عودته إلى "دمشق" رشح نفسه في الانتخابات ففاز نائباً عنها في 24 نيسان 1928م، كان حينها من أصغر أعضاء المجلس سناً، ‎فاز بأمانة سر المجلس المنعقد مع "فتح الله أسيون"، ليصبح عضواً مقرراً في اللجنة التي كونت لكتابة الدستور برئاسة "إبراهيم هنانو"، وانتخب رئيساً ثانياً للجمعية التأسيسية ومقرراً لأول دستور يوضع في "سورية"، ويعود الفضل إليه ولـ"فايز الخوري" في كتابة الدستور بمواده الـ115 في خمسة عشر يوماً، ووافقت الجمعية التأسيسية على مسودته، حيث صدر الدستور مماثلاً لدساتير الدول المتمدنة فيما يخص سيادة الدولة ووحدة ترابها، وقصر الدستور وولاية رئيس الجمهورية على خمس سنوات، وقد ترأس "الغزي" لجنة الدستور مدافعاً عنه مستعيناً بثقافة دستورية قل نظيرها، مستنداً إلى مضمون الدستور الفرنسي مرجعاً بالنسبة للحريات واحترام الفرد، وفصل السلطات واستقلال القضاء.

كما شارك ‎في النضال السوري لنيل الاستقلال ابتداء من "الثورة السورية الكبرى" ومرحلة النضال السياسي فيما بعد».

صور من تشييع "فوزي الغزي"

ويختم "العاني" حديثه بالقول: «قصد "فوزي الغزي" وزوجته "لطفية" ونجلاه "دلال" و"خلدون"، مزرعة شقيقه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع يوم الخميس الواقع في 4 تموز عام 1929م؛ ليتوفى في قرية "الريحان" عن عمر يناهز ثمانية وثلاثين عاماً، وقد قيل إنه مات مسموماً بعد مؤامرة فرنسية محكمة لإزاحته نهائياً من الحياة لأنه كان حريصاً على أن تكون بلاده مستقلة وحرة، بعيدة عن الاستعمار وأعوانه».

وفاة "فوزي الغزي" لم تكن حدثاً عادياً، وعن ذلك تحدثنا المعمرة "هيفاء الدقر" بالقول: «عندما توفي "فوزي الغزي" شيعته "دمشق" بتاريخ 6 تموز 1929، بمشاركة وفود المدن السورية والعديد من نقباء البلاد العربية، امتلأت صفحات الصحف الدمشقية آنذاك بأنباء هذه الفاجعة، وتبارى الشعراء والسياسيون من البلاد السورية والعربية بنعي "أبو الدستور السوري" منهم: "فارس الخوري"، و"أحمد شوقي"، كما تعطلت حينها الحياة الاقتصادية في "دمشق"، وفتحت المنازل لتقبل العزاء بفقيدها، سار الموكب الجنائزي في شوارع العاصمة، تغطيه الراية العربية بألوانها التاريخية ورموز الدول التي تعاقبت عليها، محمولاً على أكف رفاقه من رجالات الجمعية التأسيسية وعدد من الوطنيين».

وقد نعاه زميله في الجمعية التأسيسية وفي السجن المناضل "فارس الخوري"، فقال:

«يبكيك أحرار سورية وأنت أخ.. يبكيك دستور سورية وأنت أب

من للصعاب إذا اشتدت معاضلها.. من للخطابة يا ملسان من خطبوا

كــهوف أرواد مدت بيننا نســباً.. يا حبذا السجن، بل يا حبذا النسب

حرّ الجزيرة أذكــى من مودتنـا.. فــزاد حرّ قلوب حشـــوها لــهب

أخا السجون، أخا المنفى، أخا وصباها.. فرق الموت ما قد ألف الوصيب».

أما أمير الشعراء "أحمد شوقي" فقد رثا الفقيد بقصيدة طويلة ذاكراً مناقبه وجهوده في وضع الدستور السوري قائلاً:

«يـا واضِـعَ الدُستورِ أَمسِ كَخُلقِهِ.. مـا فـيهِ مِن عِوَجٍ وَلا هُوَ ضَيِّقُ

نَـظـمٌ مِـنَ الشورى وَحُكمٌ راشِدٌ.. أَدَبُ الـحَـضـارَةِ فيهِما والمَنطِقُ

أَبـكـي لَـيالينا القِصارَ وَصُحبَةً.. أَخَـذَت مُـخـيلَتُها تَجيشُ وَتَبرُقُ

طُـبِـعَت مِنَ السُمِّ الحَياةُ طَعامُها.. وَشَـرابُـهـا وَهَـواؤُها المُتَنَشَّقُ

وَالـنـاسُ بَـيـنَ بَطيئِها وَذُعافِها.. لا يَـعـلَـمـونَ بِأَيِّ سُمَّيها سُقوا

يـا فَـوزُ تِلكَ دِمَشقُ خَلفَ سَوادِها.. تَـرمـي مَـكانَكَ بِالعُيونِ وَتَرمُقُ».

وكانت العراضات تسير في "دمشق" وتهتف:

"هلّلي بدموعك سورية وكل البلاد العربية

لفقدك يا فوزي الغزي يا زعيم الكتلة الوطنية

فوزي الغزي يا مرحوم بكيت عليك سورية عموم".