برحيله بعد أكثر من نصف قرن على بداية مشواره الفني تكون الحركة التشكيلية السورية قد فقدت رمزاً بارزاً آخر من رموز مؤسسيها؛ الذين لم يألوا جهداً لطبعها بالطابع المحلي السوري.

الفنان "نذير نبعة" ابن أب عمل فلاحاً، وأمّ عملت في تطريز الملابس، ولد في قرية "المزة"؛ التي هي الآن أحد أرقى أحياء العاصمة عام 1938، بين بساتين المشمش والتفاح والياسمين، هذه الولادة تركت أثرها في لاحق أعماله، فيندر أن تخلو لوحة من لوحاته من تأثيرات انطباعاته عنها.

أذكر أنني كنت أسهر ليلاً لأرسم "البوستر"، وفي الصباح كان يوزع على الجدران، إذ كان الملصق وقتذاك بديلاً للّوحة

الفنان التشكيلي "نزار صابور" صديقه، قال عنه في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 6 آذار 2016: «ساهم الفنان الراحل في تأكيد حضور الفن البصري السوري المعاصر ومدى أهميته والتزامه ومستواه في داخل البلد وخارجه، عبر أكثر من نصف قرن مضى، وإن كان يُعدّ من الجيل الذي أتى بعد جيل الرواد، إلا أن جيلهم -جيل ستينيات القرن العشرين- هو من أعطى هذه الأهمية للمنتج الفني السوري، بمستواه الفني الرفيع والتزامه بالمكان والزمان، كُنا طلاباً في كلية الفنون الجميلة من 1976 حتى 1981، وكنا نعتقد ونؤمن بـمدرسة "فاتح المدرس ونذير نبعة"، لكن دماثة "نذير" ومحبته واهتمامه وعطاءه للجميع؛ جعل كل طلاب الفنون بكافة الاختصاصات يعدّونه أستاذهم».

من أعماله

يتذكر الفنان "صابور" علاقته مع "نبعة" فيقول: «أتذكر حين كنت بالسنة الثانية في الكلية، كيف وقف أمام أعمالي المنفذة بروح الشباب، من وقتها صار الأقرب إليّ، وعندما عدت من دراستي العليا مطلع عام 1991 عملنا معاً لسنوات في تدريس دفعات جديدة في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة. وفي مواقف كثيرة، كان يردد: "اشتغلت أنا و"نزار" أعواماً طويلة، ولم نختلف"، وكان يُشير إلى الخلافات التي تحدث عادة بين المدرّسين، يوم غادر الكلية، وقف على باب غرفتي مودعاً، وقال: لن تنتظر حتى تبلغ سنّ التقاعد مثلي، ستغادرها قبلي».

هكذا كان "نذير" محباً للجميع، متواضعاً وكريماً، ابن "المزة" التي يذكرها دائماً، يقول الفنان "صابور": «كان يرى كل شيء، وله موقف من كل شيء، في كل تجاربه الفنية، كان مثالاً واسع الأفق والمعرفة، وتميزت كل تجاربه الفنية بالأهمية، بتجربته في مشروع تخرجه في القاهرة، إلى تجربة أخرى بعده، إلى تجربته المهمة بعد الدراسة الثانية في "باريس"، إلى تجربته "الدمشقية" بكل زخارفها و تفاصيلها، وتجربة "تجليات" تجريد روحاني، نعثر على كل خبرته السابقة فيه، مروراً برسوم طبعت الصحافة السورية ببصمة قوية، إلى رسومه حول القضية الفلسطينية، وتكريسه لأعمال مميزة لها خلال سنوات مديدة، جعل من بيته بـ"ساحة الروضة" مكاناً لاستقبال الأصدقاء من "سورية" ومن بلدان عربية مع زوجته الفنانة "شلبية إبراهيم"، ومن سطح منزله كانت "دمشق" أمامه، وكأنه جزء أساسي منها، رحل "نذير"، لكن ذكره مؤبد».

الفنان نزار صابور

في خمسينيات القرن الماضي كان الفنان "ناظم الجعفري" قد أسس مدرسة لتعليم الرسم في قلب العاصمة التي هبط إليها "نبعة" بعد تجاوزه مراحل التعليم الأولى، لقاء "نبعة" مع "الجعفري" مثّل مفترق طريق في حياته كلها وليس الفنية فقط، يقول "نذير نبعة" في مذكراته عن تلك المرحلة: «ذاك المرسم في تلك المدرسة لا يوجد له نظير حتى في كلية الفنون الجميلة بـ"دمشق" اليوم؛ فتنظيمه وأدواته التي وفرها "الجعفري" للطلبة الصغار جعلت منه مكاناً استثنائياً للتعلم، "الجعفري" علّمني كل الخامات والأدوات التي يحتاج إليها الفنان في بداياته، فصرتُ أفهم طبيعة قلم الرصاص وقلم الفحم وإصبع الفحم، والورق الذي نرسم عليه بالألوان المائية، وكيف نحضّر قماشاً لنرسم عليه، وهذا كان على خلاف كل الفنانين الذين قابلتهم فيما بعد، فـ"الجعفري" كان كريماً جداً، لكنه بالمقابل كان صارماً وجدّياً، وهذا ما علّمني الفن واحترام أصول العمل الفني؛ أن نكون جدّيين في تعلمنا».

بعد الثانوية التحق "نبعة" بجامعة "القاهرة" كلية الفنون الجميلة، وهناك وجد التأسيس الحقيقي له كفنان، يسرد في مذكراته قائلاً: «كنت محظوظاً لدراستي الفن على أيدي أساتذة كبار هناك، فقد كان هؤلاء يشدون أيدينا نحو رسم الحديث وتناوله في أطروحات الفن العالمي، وكان هذا الأخذ والعطاء يتعدى نطاق العمل الفني أو اللوحة، إذ كانت تجمعنا مع هؤلاء الأساتذة ملتقيات ثقافية وفنية لشعراء من الطلاب أو شعراء من خارج الأكاديمية».

من أعماله الدمشقية

عاد بعد تخرجه عام 1962 إلى التدريس في "دير الزور" التي اكتشف فيها عالماً مختلفاً كليةً عن عوالم المدن الأخرى، وقد وفرت له المدينة وأهلها ومثقفوها فرصة كبرى لينتقل إلى معرضه الأول بعد نضج مبكر، فأقام معرضه الأول في غاليري الفن الحديث بـ"دمشق" (محمود دعدوش سابقاً) عام 1965 عبر عشرين لوحة أثارت سجالاً عميقاً في الحركة الفنية السورية؛ ولا سيما لوحته "الحوت والقمر"، و"العجاج" التي استلهمها من عوالم "دير الزور" وأطفالها.

معرضه الثاني جاء بعد وقت قصير في صالة "الصيوان" بـ"دمشق" عام 1968؛ مستمراً فيه بأسلوبه المعتمد على ألوان (الأوهرا)، ثم معرضه الثالث في "بيروت" في صالة "غاليري واحد" في العام التالي، ثم معرض رابع في العام التالي أيضاً في صالة المعارض بـ"دمشق"، حيث بدأت الجوائز الفنية تصل إليه، فكان أولها من معرض "غرافن" ثم "بنيالي الإسكندرية".

مع هزيمة حرب حزيران 1967 انضم إلى المقاومة الفلسطينية مشاركاً وفناناً يرسم "بوسترات" شغلت مختلف العواصم العربية، جسد فيها قيمة العمل المسلح كطريقة لتحرير فلسطين عبر شخصية "الفدائي" التي تحتل أغلب "بوستراته"، يقول في مذكراته: «أذكر أنني كنت أسهر ليلاً لأرسم "البوستر"، وفي الصباح كان يوزع على الجدران، إذ كان الملصق وقتذاك بديلاً للّوحة».

سافر عام 1971 إلى باريس لإكمال دراسة الفن في أكاديمية "البوزار" ليبقى فيها حتى عام 1974، تعرف خلالها إلى الحركة الفنية الغربية، لكنه لم يقع أسير الدهشة الفنية بتلك الأعمال، بل عمل مطولاً على استكمال نواقصه الفنية تمهيداً لتأصيل الشخصية المحلية في أعماله، الهوية السورية كما يقول عنها، فكان اهتمامه بالفلكلور مستقراً على تجذير رموزه بالعودة إلى طفولته، وقد نال المرتبة الأولى على مشروع تخرجه هناك، كما نال جائزة المدرسة العليا في "باريس".

عمل ما بين عامين 1975-1991 على موضوعه الأثير "الدمشقيات"، يقول عن تلك المرحلة: «كنت حينها أبحث عن لوحة جمهورها كل الناس أي لا تنحصر على المثقفين أو رواد المعارض الفنية فقط، لوحة تشدّ الناس فلا يخافون منها كعمل غريب عنهم، ووجدت جزءاً كبيراً من الصدى الذي كنت أرنو إليه».

الفنان "بسام كوسا" قال أيضاً عنه: «قيمته الفنيّة وصلت إلى كلّ جمهوره، لكن أثره وبعده الإنساني لا يقلان أهمية أو نبلاً عن فنّه، أغلب الأحيان يتباين المستويان الفني والإنساني عند المبدع، لكن عند "نذير" كان الأمر مختلفاً لأن روحه حملت هامشاً إنسانيّاً واسعاً مشى بالتوازي مع فرادة فنّه».

آخر معارضه كان في "الكويت" عام 2001، رحل عن عالمنا في 24 شباط 2016، عن عمر يناهز 78 عاماً؛ تاركاً مجموعة كبيرة من الأعمال المتوزعة في عدد كبير من المتاحف والبلدان.