لكل بلد رموزه وأوابده التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من هويته وتاريخه ومستقبله، هذه الرموز والأوابد لا تعني دوماً الآثار والإنجازات الحضارية للشعوب التي عاشت على هذه الأرض، بل إن التاريخ قد علمنا أن الإنسان الفرد بذاته يمكن أن يكون رمزاً لا يقل أهميةً عن أي رمز حضاري آخر، وكم هم كثر الأشخاص الذين غيروا وجه المجتمعات التي عاشوا فيها وارتقوا بها نحو آفاقٍ أوسع بكثير.

eSyria وبتاريخ 30/11/2009 التقى الطبيبب الكبير " سامي القباني" الذي يستحق بجدارة التوقف عنده وعند مسيرة نجاحه الفريدة، وكان الحوار التالي:

*ما أهم الإنجازات الطبية التي سجلت باسمك؟

الدكتور "قباني" في عيادته

**لقد أسست جراحة القلب في "سورية" بعد عودتي من "أمريكا" عام/ 1970/ حيث لم يكن هذا الإختصاص وقتها متوفر في بلدنا. في ذلك الوقت كنت أفكر في كيفية البدء بإجراء عمليات القلب المفتوح، وهو أمر استغرقت عملية التحضير والتأسيس له حوالي الخمس سنوات. وقد أجريت أول جراحة قلب مفتوح في سورية في العام 1971 تلتها سلسلة من العمليات التي أثبتت أن هذا النوع من الإجراءات الجراحية المتقدمة بات ممكناً في بلدنا. بعدها بدأنا العمل في التحضير لمركز مستقل لجراحة القلب في جامعة دمشق ، وباشرنا رسمياً عام 1976، البداية كانت بطيئة وكنا نقوم بإجراء عملية واحدة فقط في الأسبوع في بداية عمل المركز، إلا أن العمل سرعان ما تطور بخطوات حثيثة بحيث وصل عدد العمليات السنوية التي يجريها المركز عندما تركت إدارته في العام 2004 إلى أكثر من 1600 عملية.

أجرينا في المركز العديد من العمليات الروتينية الشائعة إضافةً إلى بعض العمليات النادرة وغير الشائعة الحدوث حتى على الصعيد العالمي، أما بالنسبة للإنجازات الطبية التي اقترنت باسمي فأذكر منها:

  • طريقة خاصة في استئصال أورام القلب المخاطية، هذه الطريقة تسمح باستئصال الورم دون أن يتفتت وبشكل يمنع حدوث اي نكس عند المريض. وقد قمت بتطوير هذه الطريقة خلال وجودي في الولايات المتحدة للتدريب عام 1971.

  • أجريت في الولايات المتحدة أيضاً عملية خاصة في الجراحة الإكليلية تستخدم وصلات متتابعة للشريان الثدي الباطن.

  • ختاماً في السنوات الأخيرة (اعتباراً من العام 1990) أحيينا طريقةً ابتكرها البروفسور "روس" في بريطانيا عام 1956 دون أن يتابع تطويرها، هذه الطريقة تتلخص في استبدال دسام تاجي بدسام رئوي يؤخذ من المريض ذاته. هذه الطريقة التي ابتكرها البروفسور "روس" كانت تستخدم لاستبدال الدسام الأبهري إلا أننا أجريناها على الدسام التاجي، وهي وإن كانت عملية معقدة بعض الشيء إلا أنها تعوض عن استخدام الدسام الصناعي الذي لا يناسب بعض المرضى بسبب ما يتطلبه من استخدام متواصل للمميعات طيلة الحياة.

  • *عشت لحظات عديدة إلى جانب مرضى يودعون الحياة، إلى أي حد شكلت مثل هذه اللحظات عبئاً عليك؟ وكيف تتعامل مع مثل هذه المواقف؟

    **كل جراح قلب معرض لهذه اللحظات مع مرضاه ولو بنسبة واحد أو اثنين بالمائة، ومن يقول إنه ليس لديه وفيات فهو إما لا يقوم بإجراء العمليات أو أنه يغالط الواقع. والمرضى الذين يتعرضون للوفاة عادةً ما يكونون في الأساس ممن يعانون مرضا قلبيا متأزما أو وظيفة قلبية سيئة، ونحن حين نجري عمليات خطيرة فإننا نشرح للمريض مسبقاً أن هذه العملية ستكون نسبة نجاحها قليلة بسبب خطورتها العالية، وإذا لم يكن هناك أمام المريض حلٌ آخر نتوكل على الله ونبذل أقصى جهدنا ونجري العملية. لكن اذا انتهت العملية بالوفاة فإننا نشعرأننا خسرنا المعركة وهذه اللحظات هي حقيقةً من أسوأ وأصعب المواقف التي يمر بها الجراح ذو العاطفة والحساسية. يمكن مثلاً أن أكون قد أجريت مائة عملية ممتازة وناجحة ثم تأتي عملية من هذا النوع فتنسيني نجاح المائة عملية السابقة.. باختصار هذه اللحظات ليست صعبةً فقط على أهل المريض بل هي بنفس الصعوبة على الطبيب.

  • كيف انعكست تجربتك مع مجلة "طبيبك" على شخصيتك؟ وكيف انعكست شخصيتك على مجلة" طبيبك"؟
  • **أحاول أن أقدم دوماً في المجلة أحدث المعلومات الصحية و الطبية التي تنشر عالمياً والتي تصلني باستمرار كوننا مشتركين بأكثر من عشرين نشرة ومجلة عالمية نختار من موادها ما يصلح لشعبنا.

    وأما بخصوص انعكاس شخصيتي على المجلة فهذا صحيح، وكثير من الناس يقولون لي إن المجلة على زمن والدي رحمه الله كان لها طابع مختلف، لا أعرف إن كان هذا الطابع أسوأ أم أحسن من السابق لكن على ما عتقد أنه طابع مختلف ليس إلا.

    من المؤكد أن هناك شريحةً من القراء ممن يفضلون طابع المجلة في عهد والدي لأن روحه كانت مرحة أكثر مني كما أنه كان أكثر جرأةً ويمتلك قلماً سلساً يكاد يكتب تلقائياً بمجرد أن يوضع على الورقة، أما أنا فبالعكس أجد نفسي جديا أكثر من اللزوم وأنتقي المواضيع بدقة بعد دراسة و تحليل طويلين.

    و بخصوص تأثير المجلة على حياتي وشخصيتي فمن الصعب أن أقدم لك جواباً دقيقاً هنا، لكن بتصوري أن اضطراري لمتابعة العمل في المجلة جعلني معتادا على الالتزام بساعات معينة للعمل غالباً ما تكون خلال ساعات الليل، ربما من هذه الناحية يمكنني القول أن المجلة قد أثرت على حياتي.

    *من خلال تجربتك الصحفية في مجلة طبيبك هل ترى أن الصحافة التخصصية بخير؟ أم أنها بحاجة إلى جراحة في القلب؟

    **الإعلام الطبي برأيي ضروري ولابد منه وليس من الضروري أن يقتصر على الشكل المطبوع كالجرائد والمجلات بل من الممكن أن يحصل على انتشار واسع من خلال التلفزيون والإنترنت، والمجلات الطبية تعاني المعاناة ذاتها التي تعانيها كل المجلات التخصصية بسبب الضائقة الاقتصادية من جهة وبسبب ظهور الكثير من الطرق والوسائل الإعلامية الأخرى، وأنا أعتقد انه مع الزمن سيأخذ إعلام الإنترنت حيزاً أوسع بكثير مما تأخذه المجلات المطبوعة، وإن كان قسم لا يستهان به من القراء سيبقون مفضلين لقراءة الكتاب أو المجلة.

  • ماذا يعني لك وسام الاستحقاق الذي نلته ؟
  • **الحقيقة أن الوسام الذي قلدني اياه الرئيس الراحل "حافظ الأسد" كان مفاجأة لي، فرغم أنني قد أجريت أول عملية قلب مفتوح في سورية إلاأنني لم أفكر آنذاك بالتكريم بل كنت أفكر فقط في كيف سننطلق في تأسيس مركز خاص بجراحة القلب، كان هذا التكريم مفاجأة كبيرةً لي ومصدر فرحٍ عظيم واعتبرته تقديراً للجهود التي بذلتها بعد عودتي إلى الوطن، و أنا لا أعتبر هذا التكريم تكريماً لي كشخص بقدر ما أعتبره تكريماً للإنسان السوري الذي يفضل أن يعود إلى بلده ويعمل فيه.

    *قدمت لك عروض كثيرة من الخارج للإقامة والعمل هناك، برأيك ما الذي يجعل الشخص في حيرة بين اختياره لوطنه أو للمغترب؟

    **هذا موضوع شائك يعاني منه كل طبيب يختص في الخارج عندما ينهي اختصاصه، ففي الخارج الأبواب المفتوحة أمام الطبيب وهي أوسع بكثير مما يجده عادة في وطنه الأصلي، لكن القرار يبقى تابعاً للشخص ذاته وكل إنسان يختلف عن غيره.

    أنا لا ألوم كل من يختار البقاء في الخارج فالحياة هناك اسهل من نواحٍ عدةومجال التقدم والتطور في العمل أكبر كما أن المردود المادي قد يكون أكبر أيضاً. لكن بتصوري عندما يقرر الشخص العودة إلى الوطن فإن أولوياته تكون مختلفةً.. قد تكون أولويته تقديم شيءٍ جديد لمجتمعه أو تربية عائلته في جوٍ أفضل من حيث التراث و القيم. باختصار أعتقد أن موضوع الاختيار بين العودة إلى الوطن أو البقاء في الغربة هو موضوع شخصي بامتياز.

    *يقول الشاعر نزار قباني: زراعة القلب تشفي بعض من عشقوا، وما لقلبي إذا أحببت جراح.. ما علاقة القلب بالحب والمشاعر الإنسانية حسب رأيك؟

    **أتمنى لو كان لدي شاعرية الأستاذ "نزار" حتى أستطيع الإجابة بالطريقة المناسبة، لكن من الناحية العلمية أقول للأسف إن القلب عضلة لا أكثر ولا أقل تقوم بوظيفة معينة هي ضخ الدم إلى سائر أنحاء الجسم.

    إلا أن العوامل العاطفية لها تأثير ولا بد على القلب وتتظاهر من خلال تسرع القلب الناجم عن تأثير الأعصاب الودية، أو اختلاجات القلب، أو اضطراب نظم القلب، وهذه كلها أمور تحرضها العوامل النفسية إلى حد كبير لكن هذا لا يعني أن القلب يحوي مركزاً للعاطفة والحب.

    علمياً أصبح من المتعارف عليه أن كل هذه الأشياء تعود للدماغ الذي يضم مراكز العواطف كلها، أما القلب فهو علمياً وتشريحياً عضلة قوية تنبض مادام في الإنسان حياة و أما معنوياً فقد قصد به .

    *كثير من مرضاك يصفون عملك بأنه يجمع بين الطب والفن، هل من الممكن أن يندرج الطب تحت مسمى الفن؟

    **يوجد بعد فني وفلسفي ومعنوي لكل مهنة وخاصة الطب، فقد نجد طبيباً يتقن عمله ويقوم به بشكل روتيني صحيح إلا أنه يفتقد مثلاً اللمسة الإنسانية أو الشاعرية عندما يتعامل مع مرضاه، وهذا الظاهرة موجودة في كل المهن. من هذا المنطلق يمكننا القول إن جراحة القلب ليست عبارة عن مشرط وخياطة جرح وحسب.. هناك أمور ولمسات أخرى كثيرة يمكن أن يتعلمها ويتدرب عليها الطبيب لكي تساعده في الحصول على نتائج أفضل كتصغير جرح العملية وجماليته مثلا والدقة خلال المداخلة الجراحية ذاتها بحيث يلحق أقل ضرر ممكن بالنسج...الخ.

    *"سامي القباني" الطبيب الناجح، الكاتب، الأستاذ الجامعي والباحث... هل ما زال لديك طموحات تسعى لتحقيقها؟ ولمن يعود الفضل في نجاحك؟

    **أنا ما زلت أستاذاً في الجامعة وطالما أنا قادر على العطاء فلن أتوقف إن شاء الله، مجلتي مستمرة أيضاً وأنا مضطر للاستمرار معها، وفي حال توفر الوقت أفكر أيضاً في كتابة ملخص عن الأحداث التي مررت بها والتي قد تفيد أفراداً آخرين هم في بداية الطريق.

    الإنسان يجب أن يتطلع دوماً نحو الأفضل وأن يسعى نحو تطوير نفسه ومجتمعه، وأي إنسان دون طموح أو امل في التقدم يخسر الكثير من انسانيته .

    أما بالنسبة لصاحب الفضل في نجاحي فيمكنني القول أن كل إنسان مر في حياتي أعطاني شيئاً استفدت منه بدءاً من والدي رحمه الله ، إلى أساتذتي إلى الجامعات التي تعلمت فيها ووصولاً حتى إلى مرضاي وأولادي.

    *قدمت للطب والوطن الكثير، كيف تشعر اليوم وأنت تعيش نجاحاتك؟ وما الذي قدمه الوطن لك؟

    **يكفيني الشعور بالرضى الذي لايوازيه أي شعور آخر ،لأنني تمكنت من تقديم شيءٍ ما لوطني، فالله أعطاني فرصة كبيرة لخدمة بلدي وتمكنت من تأسيس وإطلاق اختصاص متقدم لم يكن موجوداً في سورية من قبل. ربما لم أختر كل شيء في حياتي إلا أنني لم أندم يوماً على على قرار رجوعي إلى وطني وعملي فيه وأنا سعيد وراضٍ عن قراري هذا،

    هذا الشعور بالرضى كما قلت لا يوازيه أي مبلغ أو تعويض مادي قدمته لي سورية و الكسب المعنوي الذي جنيته فيها لا يقدر بثمن.. وأحب أن أقول لكل شابٍ سوري انه يجب ان يكون لديه الثقةٌ بوطنه وثقافته وأمته ومهما صادف من مشاكل وعلات وأخطاء عليه أن يتحلى بالإيمان وبأن هذه الصعوبات والعقبات يمكن أن تزول وأن حال الأمة يمكن أن يتغير نحو الأفضل.

    يذكر أن الدكتور " سامي القباني" :

    -حاصل على شهادة "البورد الأميركي" في "جراحة القلب والصدر والأوعية"

    -أستاذ جراحة القلب في كلية الطب بدمشق والرئيس الفخري للرابطة السورية لأمراض وجراحة القلب.

    -حاصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى تقديراً لجهوده وخدماته ودوره المؤثر في مسيرة تحديث بلده وتطويره.

    -أسس وأطلق اختصاصاً طبياً متقدماً لم يكن موجوداً في بلدنا قبله، وهو أول من أجرى عملية القلب المفتوح في "سورية".

    -أجرى مئات العمليات الجراحية المعقدة وإليه يعود الفضل في إنقاذ حياة المئات من البشر..