إن الشهرة التي اكتسبها نزار قباني في العصر الحديث لم يكتسب مثلها شاعر لا قديماً ولا حديثاً.. فقد دخل بصورة سحرية، ليس ثقافة الناس فحسب، بل قلوبهم أيضاً..

وعلى نحو لا مثيل له، فهو يقول إنه أمم الشعر، جعله للعامة بعد أن كان مقتصراً على النخب،

قرب القصيدة من حلم وثقافة وطريقة الناس في أدائهم اليومي، إن الموضوع الأثير لديه هو المرأة وقد وصفها منذ البداية بأوصاف حسية وجدها الناس قريبة منهم، ومعبرة عما يودون قوله، الأمر الذي جعل الشاعر قريباً منهم، وكذلك الشأن في القصائد السياسية، فقد قاربها بأسلوب مباشر، شتم الحكومات العربية دون لف ودوران، وهذا ما جعل أواصر المحبة بينه وبين الناس تزداد متانة وعمقاً.

في منزله اللندي 1998

ولد نزار قباني في دمشق– حي مئذنة الشحم عام 1923 لأسرة دمشقية عريقة، في بيت لم يتوقف قباني عن تقديمه كما لو أن الجنة، حيث سكانها الورود والأشجار والطيور، يقول عنه: "كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت أسقط على وردة"، ويصف والده توفيق، وهو بائع الحلوى، بأنه ثائر لقيامه بمقاومة المحتل الفرنسي وتنظيم المظاهرات ضده، ويشعر بفخر كبير بأنه حفيد المسرحي الذي أسس المسرح العربي أبو خليل القباني ويصفه بأنه شارلي شابلن عصره، ومما أثر فيه بصورة بالغة هو انتحار شقيقته وصال إثر حب جارف عارضه والده بقوة، وقد اعتبرها نزار أول شهيدة للعشق في العائلة.

أثار ديوانه الأول "قالت لي السمراء" عام 1944 ضجة واستياء كبيرين بسبب جرأته في طرح قضايا الحب والمرأة والجنس في وسط محافظ، وبحسب نزار فقد أثار هذا الديوان: "وجعاً عميقاً في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، كان دبوسا في عصب المدينة المدودة منذ خمسمئة عام على طاولة التخدير، تأكل في نومها، وتعشق في نومها، وتمارس الجنس في نومها ".

على كورنيش بيروت مع زينب وعمر 1975

ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف أي ديوان أو قصيدة نشرها إلا وأثارت زوبعة من التساؤلات والمشاحنات وردود فعل متباينة في مختلف الأوساط...

وقد ظن بعضهم أن الشاعر سوف يتراجع عن مواضيعه بعد ردود الفعل الصاخبة تلك، لكنه فاجأ الناس بعد ذلك بديوان أسماه "طفولة نهد" عام 1948 الأمر الذي زاد الطين بلة، ولم يتراجع الشاعر عن أسلوبه وقضاياه رغم المعارضات الشديدة.

تخرج من كلية الحقوق عام 1945 وعمل في السك الديبلوماسي منذ ذلك الوقت ولمدة عشرين عاماً في مختلف العواصم العربية والأجنبية، الأمر الذي أسفر عن سفر وترحال دائمين أثر على تنوع موضوعاته وتحولها من الغزل والتشبيب بالمرأة إلى النظر إليها على أنها مقموعة ومضطهدة وأشبه بالسلعة، فدعاها لأن تثور هذا المجتمع المتخلف:

"ثوري أحبك أن تثوري

ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور

ثوري على التاريخ...".

ومثلما أثار العرب بقصائده عن المرأة، أثارهم بقصائده السياسية، وكان لهزيمة حزيران 1967 أكبر الأثر في نفسه، قال بعدها إنه لن يعود إلى الطرق القديمة في التفكير:

"أنعي لكم

ياأصدقائي اللغة القديمة

أنعي لكم

نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة"

وقوبلت هذه القصائد بهجوم لاذع كقصائده عن المرأة، ولولا تدخل الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً لحرمت مصر في تلك الفترة من الكثير من قصائده الشهيرة هذه.

والأمر الذي أكد تحوله الشعري هذا– من المرأة إلى السياسة - هو مقتل زوجته بلقيس عام 1981 في بيروت أثناء حادث تفجير السفارة العراقية هناك، وكانت قصيدته "بلقيس" أشبه بمنشور سري راح يتوزعه العرب كبيرهم وصغيرهم لما تتضمنه من شتم قاس ولاذع للحكومات العربية، وهذا ما يفكر به العرب جميعهم دون أن يتجرؤوا على التصريح به نتيجة بطش حكامهم، فوجدوا في هذه القصصيدة كما في سواها تعبيراً عنهم.

لقد كان نزار قباني شاعر الجميع كما قال عنه محمود درويش، وهو الشاعر الذي حقق جماهيرية منقطعة النظير يحلم بها معظم شعراء العالم.

كان مجدداً، متمرداً، يكتب للبسطاء دون إدعاء وتبجح، وقد رد له البسطاء جميله هذا بأن قرؤوه كالكتب السماوية، وحين مات 1998 بكوا عليه كما لم يبكوا على أقاربهم.