وضعه القدر أمام أفضل معلم يمكن أن يحصل عليه يوماً، فتعلم حرفة صناعة القش التي اكتسب عشقها من والدته فأتقنها على أصولها، وأبدع فيها؛ وهذا ما جعله حريصاً على استمرارها، والمحافظة عليها ليكون الحرفي الوحيد في "دمشق" الذي يعمل بها.

الدفء والحنان من أهم الصفات المشتركة التي جمعت بين الحرفي "ياسين دحبور" وصناعة القش، فدفعته إلى تعلمها والمحافظة عليها، وذلك من خلال حرصه على المشاركة في المعارض الداخلية والخارجية، وممارسة مهنته أمام المارة في "التكية السليمانية"؛ حيث التقته مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 23 تشرين الثاني 2015، فحدثنا قائلاً: «رغبت بتعلم هذه الحرفة بعمر العشر سنوات، حيث كنت أراقب والدتي الحرفية "فضة فراوي"، وهي ممسكة بعيدان القش المطواعة بين يديها بكل حنان ورقة، فأبدعت فيها وأتقنتها ولونتها من روحها، وصممت أشكالاً مختلفة ونقشت رسوماً هندسية متنوعة، كما تعلمت الكتابة على أطباق القش على الرغم من أنها أمّية، إلا أنها تملك حسّاً فنياً يجعلها قادرة على الابتكار، فمواطن جمال هذه الحرفة يكمن بأن موادها الأولية من الأرض؛ وهو ما يشعرني بالدفء والحنان المنبعث من الأرض بعد يوم عمل، وهو نفس الدفء والحنان الذي تشعرني به أمي. دائماً كنت أرافقها إلى الحقل في فصل الصيف بعد انتهاء موسم الحصاد لانتقاء عيدان القش الطويلة والناعمة وحفظها لفصل الشتاء من أجل تدويرها وصنع أطباق من القش، فالطبيعة القاسية التي تتمتع بها قرية "دربل" في فصل الشتاء نتيجة تراكم الثلوج جعل هذه الحرفة تمارس من قبل نساء القرية لقلة الأعمال الزراعية، ولتمضية أوقات الفراغ الطويلة في ليالي الشتاء».

الانطلاقة الأولى التي كانت السبب بتسويق بضائعنا والتعريف بنا وسبب وجودنا في "دمشق"، هي الدعوة التي تلقيناها للمشاركة في "معرض دمشق الدولي" عام 1970، كنت شاباً يافعاً في السابعة عشرة من العمر، كنا نحمل القش الملون والمصبوغ سابقاً والأدوات التي سنعمل بها إلى المعرض للعمل هناك، فالمعرض يعد تظاهرة فنية، ويقصده عدد كبير من الزوار؛ وهذا ما جعل الناس يلتفون حولنا مبهورين بطريقة عملنا، واختلاف الأجيال مكننا من شغل أطباق مميزة؛ حيث كان السائحون ينتظرون أعمالنا من سنة إلى أخرى، وواظبنا على المشاركة في المعرض لأكثر من عشرين عاماً، فاستطعنا التعريف بمفردات بيئتنا الجبلية من خلال الرسومات والأشكال

ولممارسة هذه الحرفة قال: «على الرغم من بساطة الأدوات التي نستخدمها "المخرز والمقص والقش"، إلا أنها تحتاج إلى الانتباه والدقة، أما المهارة فتأتي من التدريب المستمر على يد معلم محترف، فمتابعة والدتي لكل مراحل العمل جعلتني أبدع فيها، حيث كنت أستخدم عيدان القمح لصنع أشكال مختلفة من الأطباق، مثل: (القفّة) التي تحفظ فيها المؤونة، و(مكب الخبز) المخصص لوضع الخبز، كما عملت (السلل) بأحجامها وأنواعها المختلفة التي ننقل بها المحاصيل، و"صندوق العروس"، حيث أضفت رسومات عصرية إليها لكن بهوية تراثية، وأدخلت تشكيلات هندسية جديدة إلى بقية الأنواع، مستفيداً من خبرة الوالدة ومهارتها ومعتمداً على الروح الشبابية التي لا بد أن تظهر، لقد شجعتني والدتي لأنها كانت تحاول الابتعاد عن التكرار حتى لا تقع بفخ التقليد والملل، الذي كانت تعاني منه هذه الحرفة، ثم فتحت ورشة في المنزل مع والدتي فازدادت شهرتي المهنية لأن أعمالنا ظهرت بحلة جديدة سواء بالشكل أو اللون. وقد أعطاني المردود المادي الجيد دافعاً للاستمرار وخلق أفكار جديدة خاصة أنني أردت أن أثبت مهارتي، فأغلب من يعمل بهذه المهنة من النساء فقط».

بعض أعماله

ويستكمل حديثه بالقول: «الانطلاقة الأولى التي كانت السبب بتسويق بضائعنا والتعريف بنا وسبب وجودنا في "دمشق"، هي الدعوة التي تلقيناها للمشاركة في "معرض دمشق الدولي" عام 1970، كنت شاباً يافعاً في السابعة عشرة من العمر، كنا نحمل القش الملون والمصبوغ سابقاً والأدوات التي سنعمل بها إلى المعرض للعمل هناك، فالمعرض يعد تظاهرة فنية، ويقصده عدد كبير من الزوار؛ وهذا ما جعل الناس يلتفون حولنا مبهورين بطريقة عملنا، واختلاف الأجيال مكننا من شغل أطباق مميزة؛ حيث كان السائحون ينتظرون أعمالنا من سنة إلى أخرى، وواظبنا على المشاركة في المعرض لأكثر من عشرين عاماً، فاستطعنا التعريف بمفردات بيئتنا الجبلية من خلال الرسومات والأشكال».

الإتقان والحسّ الفني مكّنه من الحصول على محل في "التكية السليمانية" المعروفة باحتضانها للحرفيين السوريين لنشر الثقافة والمحافظة على التراث، يقول: «الانطلاقة الثانية كانت عندما بدأ المارة يتعرفون إلى منتجاتنا، وكان ذلك عام 1986، حيث تم إعطاؤنا محلّاً بسوق المهن اليدوية؛ وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت الحرفة تحافظ على وجودها، خاصة أنها أصبحت جزءاً من ديكور المنزل، ولم تعد حاجة أساسية تستعمل من قبل ربة المنزل في ظل انتشار الأواني البلاستيكية ذات التكلفة الرخيصة، لكن هنالك دائماً من يفضل اقتناء أطباق القش الصحية والجميلة، التي تدوم لسنوات طويلة إن قمنا بتهويتها جيداً، وأنا حالياً أملك طبقاً من القش عمره 100 عام وما زال محافظاً على جودته، وهناك من يقصدني دائماً ليتمتع برؤية الأعمال الفنية المعروضة في محلي، مع العلم أنني أجد صعوبة حالياً في تأمين المواد الأولية، إلا أنني ما زلت أشعر بقدرتي على العطاء والابتكار على الرغم من تجاوزي الستين عاماً، وأرغب بإدخال إضافات جديدة إلى المهنة، حيث سأستفيد من مهنة الحفر على الخشب التي أتقنها منذ عام 2001، والعمل على الدمج بين المهنتين بطريقة فنية، ومع ذلك لا أستطيع أن أقول إنني مرجع، فما زلت أتعلم وأستفيد من خبرة الآخرين».

طبق من القش عمره أكثر من مئة عام من صنع والدته الحرفية "فضة فراوي"

رئيس شعبة المهن التراثية بغرفة السياحة في "دمشق"، والحرفي في الرسم النباتي على الخشب "عرفات أوطه باشي" تحدث عن رأيه بالحرفي "دحبور" قائلاً: «الموهبة وحب المهنة جعلاه يبدع، فتميز بلمسة خاصة وبصمة متفردة من خلال إضافة ألوان جديدة ورسومات هندسية من روح العصر، وهذا ما جعله محط أنظار عدد كبير من السياح العرب والأجانب، كما أنه تعلمها من مصادرها الصحيحة؛ حيث استفاد من خبرة والدته، فابتكر وعمل جاهداً للحفاظ عليها من خلال مشاركاته الدائمة في "معرض دمشق الدولي" الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من إظهار التراث الثقافي، ثم ساهم بالمحافظة على التراث وذلك بتدريبه لعدد كبير من الراغبين بتعلم المهنة، ولأنه يمتلك الحسّ الفني تمكن من الجمع بين عدة مهن يدوية، فبدأ ممارسة حرفة النقش على الخشب، ويسعى حالياً إلى الدمج بينهما مستغلاً الفن كوظيفة وليس الفن للفن أو الجمال للجمال، فظهر الجمال والفن في قطع تستخدم لأداء وظيفة يستفاد منها، مع العلم أنه الحرفي الوحيد الذي يمارس هذه المهنة في "دمشق"».

يذكر أنه من مواليد عام 1953، وحائز على عدة شهادات تقدير بمشاركات عربية ودولية.

الحرفي الفنان عرفات أوطه باشي