في سوق الشعلان المزدحم ثمة متجر وحيد لبيع اللوحات الفنية، واجهته المملوءة باللوحات تجعلنا نتساءل: هل هناك من لا يزال يشتري لوحة في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة؟ أم أنّ الحاجة للفن لا تزال تدفع بعض الميسورين لاقتناء اللوحات الفنية؟

قبل سنوات الحرب، كانت سوق بيع اللوحات الفنية مزدهرة، سواء داخلياً حيث كان الكثير من الأسر التي تنتمي للطبقة الوسطى وما فوق تبدي اهتماماً بشراء بعض اللوحات الفنية أو خارجياً من خلال الزوار والسياح والمشاركة في المعارض الخارجية، لكن بعد تسع سنوات حرب فإن عمليات بيع وشراء اللوحات تراجعت حتى التوقف نوعاً ما، وبرأي الفنان التشكيلي "عدنان حميدة" فهذا أمر طبيعي لأنّ «اللوحة، والفن عموماً، عبارة عن سلعة تقتنى ما بعد الرفاهية، وكي تكون متداولة بين الناس يجب أن يكون دخل الفرد كبيراً كي يفكر ويستطيع اقتناء عمل فني، والكل يعلم أنّ دخل الفرد اليوم في "سورية" لا يغني من جوع، فكيف له أن يفكر مجرد تفكير بلوحة يزيّن بها غرفته؟ وحتى الطبقة الغنية تراجع اقتناؤها للأعمال الفنية، فقد تغيرت أولوياتها بالشراء، فالذهب أبقى وأفضل، في أوضاع البلد غير المستقرة».

لم تجتمع اللجنة هذا العام بعد وهي التي تقدر القيمة المادية للوحات، ومؤخراً وجهنا الدعوة لزيارة معرض "الخريف السنوي" بهدف تشجيع الاقتناء الخاص من خلال معارض الوزارة لأن مهمتها هي نشر أعمال الفنانين، إضافةً إلى اقتناء بعض اللوحات، ويكفي الفنان أن يكون عمله معروضاً في متحف الفن الحديث

ويضيف فيما يتعلق بالذائقة الفنية لدى الجمهور: «مع قلة عددهم، إلا أنه بات من الواضح أنّ الذين يقتنون الأعمال الفنية هم أصحاب أذواق مختلفة، فمنهم من يرغب بالأعمال الواقعية ومنهم من يرغب بالأعمال التعبيرية والتجريدية، ولا أعتقد أنّ هناك جمهوراً لشراء اللوحات أو النحت، هناك ذواقون للفن منهم من يستطيع الشراء ومنهم من لا يستطيع، وهناك تجارٌ للفن يعلمون ما هو العمل الجيد الذي يمكن الاستفادة منه ربحياً بعد حين».

"عماد كسحوت" مدير الفنون الجميلة

كمالية الكماليات!

"رباب الأحمد" مديرة المركز الثقافي بـ"أبو رمانة"

وإذا كانت السلع التي تمثل جزءاً من الاحتياجات الأساسية للمواطنين كافة تعاني حالياً من ركود تختلف نسبته بين سلعة وأخرى، فكيف الحال باللوحات الفنية التي لها جمهور محدد؟

"مياس الغميان"، وهو صاحب متجر "زها" في حي "الشعلان"، يرى أنه من الطبيعي أن تخف عملية البيع بسبب الظروف المعيشية التي يعاني منها الجميع وقلة المردود المادي، ولا سيّما أن اللوحة الفنية تعدُّ من كمالية الكماليات، مبيناً أن معظم اللوحات المعروضة في متجره هي لوحات تجارية و90 بالمئة من اللوحات التي تحقق نسبة بيع هي رسومات لدمشق القديمة، وأخرى لفنانين مبتدئين أو خريجين جدد، موضحاً أنهم يتعاملون كمتجر مع فنانين مشهورين ضمن نطاق ضيق جداً بسبب غلاء الأسعار التي يطلبونها والتي لا تتناسب مع الوضع الحالي.

صورة للوحات معروضة للبيع في متجر "زها"

ويضيف "الغميان" سبباً آخر لتراجع عمليات شراء وبيع اللوحات الفنية في "سورية"، فيشير إلى أن الجمهور السوري متذوق للفن بشكل عام لكن معظم الأشخاص المتذوقين أصبحوا اليوم خارج البلد ما انعكس سلباً على السوق، وفي الوقت الذي تتراوح أسعار اللوحات التجارية بين ثمانية إلى عشرة آلاف ليرة سورية، تصل أسعار اللوحات الفنية لمئات الألوف أو الملايين تبعاً للمبلغ الذي يحدده الفنان، موضحاً أنّ للتاجر نسبة محددة على البيع.

هناك في المقابل من يكسر حالة التشاؤم تلك، فالتشكيلية "سلام الأحمد" تعتقد أن نسبة مبيعاتها هذا العام كانت جيدة قائلةً: «أغلب الذين اقتنوا لوحاتي هم أفراد، ليسوا مؤسسات ولا جمعيات، وحققت هذا العام نسبة مبيعات جيدة لأن أسلوبي قريب للديكور أينما وضعت لوحتي في بيت أو مطعم تتناسب بشكل جمالي معه، وأعتقد أن أسعارها مرتفعة بعض الشيء، لأنني أفضل أن أرفع من قيمة العمل الفني، وأعتقد أن تخفيض السعر يقلل من قيمة اللوحة، لا بد أن يكون الزبون نوعياً قارئاً للوحة ومن المهتمين بالفن لكي يقدر قيمتها ويحافظ عليها».

*ذوق واهتمام

ما معايير اقتناء اللوحات الفنية؟

لكل شخص وجهة نظر خاصة حيال هذا الموضوع مرتبطة عموماً بالهدف من عملية الاقتناء، فمثلاً يشير الدكتور "إباء عبد الرحمن" إلى أن إعجابه بالعمل الفني بشكل عام وحبه للوحة التشكيلية ولصاحبها الفنان يشكلان المعيار بالنسبة له، ولا سيّما أنه يتمتع بأرضية فنية منذ فترة طويلة، فاللوحة تشده لها ولاقتنائها بغض النظر عن المدرسة التي تنتمي إليها، لكنه يفضل المدارس الواقعية، الانطباعية والتعبيرية، وليس من أنصار الحديثة وأصحابها، مشيراً إلى أن أسعار اللوحات غالباً ما تكون مجحفة بحق الفنان خاصةً إذا ما قورنت بالأوضاع الاقتصادية الحالية ومعدل التضخم، وذكر أن أغلى لوحة اقتناها هي للفنانين "عبد الله أبو عسلي" والراحل "محمد الوهيبي".

أما وزارة الثقافة، والتي تقتني سنوياً عدداً لا بأس به من اللوحات الفنية، فهناك آلية اقتناء محددة وبحسب ما يقول الفنان "عماد كسحوت" مدير الفنون الجميلة (اللقاء تم في الثالث عشر من كانون الأول 2020) فإنه: «يتم تشكيل لجنة من عدة فنانين سوريين من أصحاب الخبرة والأساتذة في كلية الفنون الجميلة واتحاد الفنان التشكيلين بشكل سنوي لانتقاء الأعمال الفنية من خلال المعارض التي تقيمها الوزارة، ويجب أن تكون الأعمال بمستوى الوسط وما فوق، ونبتعد عما دون ذلك، اللوحة الجيدة هي التي تحكم بغض النظر عن عمر الفنان، وتعدُّ "سورية" من الدول القليلة التي تقتني فيها وزارة "الثقافة" أعمالاً لفنانيها».

ويتابع قائلاً: «لم تجتمع اللجنة هذا العام بعد وهي التي تقدر القيمة المادية للوحات، ومؤخراً وجهنا الدعوة لزيارة معرض "الخريف السنوي" بهدف تشجيع الاقتناء الخاص من خلال معارض الوزارة لأن مهمتها هي نشر أعمال الفنانين، إضافةً إلى اقتناء بعض اللوحات، ويكفي الفنان أن يكون عمله معروضاً في متحف الفن الحديث».

ويتابع مشيراً إلى أن الوزارة في السابق كانت تقتني بأسعار تعادل الاقتناء الخاص لكنها حالياً تقتني ضمن الإمكانيات المتاحة تشجيعاً للفنانين، حيث توجهت الوزارة بالدعوة للمؤسسات الحكومية الأخرى للاقتناء من معرض الخريف، يجب على الوزارات أن تتبع سياسة ثقافة اقتناء اللوحة، وأن تكون ثقافة الإهداء هي إهداء لوحة لتشجيع الفنان على الإنتاج، وبالتالي تشجيع ثقافة الاقتناء التي تتبعها كل دول العالم وسيتم اعتمادها لاحقاً.

حاجة حيوية

ورغم اتفاق الكثيرين على تراجع سوق اللوحات الفنية خلال سنوات الحرب، إلا أن ذلك لم يتسبب بوقف تنظيم وإقامة المعارض الفنية، وكما تقول "رانية عبيد" من الإدارة المالية في "آرت هاوس" فإنه ورغم تراجع القوة الشرائية في السنوات الأخيرة بشكل تدريجي خلال سنوات الحرب نتيجة ضعف الأوضاع الاقتصادية، إلا أن النشاط الثقافي استمر في "سورية" سواء من خلال افتتاح صالات عرض فنية جديدة، أو باستمرار المعارض الفنية بشكل شبه يومي ما خلق حافزاً لازدياد الحركة الثقافية رغم ضعف القدرة الشرائية، لأن الحاجة للفن والجمال على حد قولها هي حاجة حيوية لدى الإنسان، إضافةً إلى صفة التحدي الذي يتمتع بها السوريون موضحةً أن الصالة حالياً متوقفة عن إقامة المعارض بسبب أعمال الترميم ووباء كورونا، ولكنها ستواصل نشاطها بمعارض أخرى لاحقاً».

من جهتها "رباب أحمد" مديرة المركز الثقافي في "أبو رمانة" تؤكد أن هناك شروطاً لإقامة المعارض الفردية في المركز أهمها أن تكون أعمال الفنان ضمن الأعمال الجيدة وما فوق إلى نخبوية، إضافةً إلى وجود معرض سنوي للمواهب الشابة بعنوان "تجارب فنية".

وعن عدد المعارض سنوياً، توضح أنّ هناك معرضاً فنياً أسبوعياً على مدار العام عدا شهر رمضان المبارك، وأحياناً قد يكون هناك معرضان خلال الأسبوع الواحد، مع الإشارة إلى أن المركز الثقافي كصالة عامة لا يتدخل عندما يتم شراء عمل فني، والفنان هو الذي يحدد أسعار لوحاته، لكن يشترط عليه أن يستمر بمعرضه ليومه الأخير حتى لو باع لوحاته بالكامل.

وترى "أحمد" في ختام حديثها للمدونة أنه قبل وباء كورونا وانخفاض سعر صرف الليرة السورية، كان هناك إقبال أكثر على شراء اللوحات من قبل شرائح مختلفة كبعض التشكيليين الذين يهمهم اقتناء اللوحات، والذواقة من رواد المركز، أو معارف الفنان نفسه.