وجدت ذاتها الحقيقية في النحت، فكان شغفها بأعمالها انعكاساً لرؤيتها وتخيلاتها التي جسّدتها عبر إضافات تشكيلية وبصرية وسريالية، وعبرت فيها عن أفكار معاصرة وإنسانية.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع النحاتة "جوليا وهبي" بتاريخ 9 أيلول 2018، لتحدثنا عن طفولتها، حيث قالت: «هي كبذرة زُرعت داخلي وبنيت عليها الكثير في كل خطوة، فكانت مملوءة بالطموح والحلم وحب الفنون والرغبة في اكتشاف كل جديد، حيث كانت لدي ميول فنية منذ الصغر، وكان للرسم النصيب الأكبر، حيث رسمت كل ما وقعت عليه عيني، وكنت أرفق الرسومات بقصص متخيلة، وقد استهديت لروح الفن الأول عبر والدتي التي وفرت لي أدوات الرسم على الرغم من الإمكانات البسيطة، وبذلك أرشدتني إلى طريق الفن بالكثير من الشغف والحب منذ الصغر، وكنت دائماً أشعر بأنني أكبر من أقراني، حيث كنت طفلةً ناضجةً أحلّلُ وأركب في تفاصيل الحياة. أما توجهي مستقبلاً إلى فن النحت، فقد كان مصادفةً جميلةً اختارها القدر لي، مع أن فن النحت فطري ليس ببعيد أبداً عن الطبيعة والحس الإنساني؛ فهو فن صديق ومرافق للوجود الإنساني، ولو أنه شعور يصعب على الكثيرين اكتشافه إلا في ذهنية واعية متيقظة، فالصلصال والماء والهواء والعوامل الطبيعية هي سبب في كينونة الإنسان، ولن أنسى أبداً هذا الشعور الأول الذي لم أفهمه بدايةً عندما بدأت عمل كرات وأشكال من الطين والزخرفة عليها في إحدى زياراتي إلى قريتي، حيث التربة هناك صلصالية سهلة التشكيل بالقرب من أحد الينابيع فيها، وهناك امتزج الحب والفكر والفطرة الطفولية وجمال الطبيعة لصنع أشكال لم أفهمها ولم أعرف أنها جزء من مستقبلي، وأنها ربما إشارة من إشارات القدر لتوجيهي نحو فن النحت؛ لذا لم أتردد لحظةً في القول إنني أريد أن أدرس فن النحت عندما سنحت لي الفرصة بعد أن ضاع مني لوهلة في زحمة الحياة، لكن القدر ردّه إليّ».

شاركت بعدة معارض وملتقيات تحت رعاية وإشراف وزارة الثقافة، منها: معارض "الربيع"، وملتقيات "الشباب"، وغيرهما، ومعرضان جماعيان، ومعرض فردي في عام 2016 ولديّ مشاركات في ملتقيات دولية في "إيطاليا وتركيا"

وأضافت: «في صغري كنت أحبّ رسم الوجوه وتشدني التعابير والملامح الإنسانية؛ لذا كان أول عمل لي بعد التخرج وجه امرأة يسبح شعرها نحو الأعلى مشكلاً سنابل قمح تتخلله الشمس، فالنحت بالنسبة لي عبارة عن حالة فكرية خصبة جداً تفرض نفسها عليّ جسدياً وفكرياً، وأشعر معها بالرغبة في تصميم أشكال متنوعة، ولا أستطيع اللحاق بالأفكار أحياناً، حتى إنني أرسمها على الورق، وأحب المزج في المواد من دون التفكير في مدرسة أو اتجاه، حيث أركز على الفكرة والتشكيل والتجديد الدائم، وأحتاج إلى الوقت لتتبلور فكرتي أخيراً بالشكل والاتجاه الذي أرنو إليه، لذلك أغلب الأحيان أقوم بتحضير عدة تصاميم حتى أصل إلى جزيرتي المتخيلة التي أشعر فيها بالسكينة».

الفنان التشكيلي "عبد الرحمن مهنا"

أما حول وجهة نظرها بالفن ومفهومه، فقالت: «الفن حياة وفكر وممارسة وبُعد روحي ووجودي، بل هو لبّ الحياة وبذرة الخلق والإبداع، لذلك فإن تعاملي مع المادة هو تعامل متجدد دائماً، تعامل الباحث في المجهول والتجريب، فتارةً يكون بالتحبب والتودد، وتارةً أخرى يكون تحدياً وصراعاً فكرياً ممتعاً، لكنني أجد أن تعاملي مع القلم والورقة في إخراج الفكرة والتصميم النحتي هو أساس أي عمل فني، وعليه أبني طريقة تعاملي مع المادة ونوعيتها، حيث إن التعامل مع المادة إما أن يكون عفوياً أو مدروساً؛ فكل عمل فني لديه قصته وقيمته ولحظة ولادة تشير إليه وتعكس انطباعاته وتأثيره وتاريخه، وأراقب عملي؛ فأحياناً أكون ناقداً ومشرفاً على مراحل تطور عملي سواءً بالتكنيك أو بالتشكيل، وأفضّل الرمزية والسريالية، والفن الحديث كمذهب وعالم خيالي خصب بالنسبة للفنان، وأذهب أبعد في هذا الاختزال الفكري المتجسد في عمل نحتي؛ وهو ليس بالأمر السهل، فهناك رابط قوي بين شخصية الفنان وتجربته في الحياة وأعماله الفنية؛ فهو يستمد من ذاته عناصر وجوده أولاً، فهو كإنسان خليط ذكوري وأنثوي تؤثر به عناصر الطبيعة والفكر والتوجه لغلبة عنصر على عنصر بإرادته، أو عكس إرادته ليتشكل عالم لا ينتهي من المفردات والجمال والقبح والخيال والجماد من الموجود واللا موجود ضمن محيط من الإبداع يتسع لخلق جميع الفرص، فالفنان بحاجة ماسة إلى الاطلاع والتواصل مع ثقافات مختلفة لتبادل الخبرات والتجارب والمعرفة والثقافة المختلفة، وقد وجدت شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت فرصة خلاقة للتعارف والاحتكاك المباشر مع الآخر».

أما حول تفضيلها للخشب كمادة أساسية في أعمالها، فقالت: «المادة بالنسبة للفنان جزء من محفزاته؛ فهو لا يستطيع أن يفضّل واحدة على أخرى، لكن أحياناً يأخذ وقته في التعامل مع مادة لفهمها أكثر ليبدأ مسيرته، لذلك أنا لست مع القول: هذا نحات خشب أو حجر أو برونز؛ فالمادة للفنان كاللغة من الواجب عليه أن ينطق بمفرداتها كلها، وإن كان لكل فنان طريقته وأسلوبه، لكن أحياناً لا نكون مخيرين في اختيار المادة؛ فالمكان وتوفر المادة يفرض نفسه على أرضية العمل الفني، وأنا أجد نفسي في العمل على مادة الخشب، كما أجد نفسي في العمل على مادة الرخام أو التعامل مع الصلصال أو أعمال البرونز أو حتى المعدن؛ فلكل عمل نحتي مادته التي تناسبه أكثر، والخشب مادة جميلة وممتعة، ولديها لغتها الخاصة في التعبير والتأثير».

جمال ودقة

أما حول طموحاتها، فقالت: «أحلامي لا تنتهي، وهي غذائي الروحي والوجودي والمحفز الأول للسعي لإثبات نفسي كفنانة وإنسانة واعية مثقفة، وأرى أن القدر كافأني لعملي كفنانة بالنحت، وعلى الرغم من امتلاك نعمة الفن والموهبة، فأنا لا أجد أنني قد أخذت كفايتي من التعليم الأكاديمي في عالم الفن، وهو ضروري على الرغم من رأي الكثيرين بتفضيل الموهبة والاكتفاء، فالفنان الحقيقي في حالة عطش دائم للفن والمعرفة والعلم. أما على الصعيد العام، فهناك ضرورة لتوفير فرص العمل في المجالات الفنية وتقدير أهمية وجود الفنان وشخصه في المجتمع، وتأمين سبل معيشته على الأقل من خلال تسويق أعماله، ورفده ببعثات تدعم مسيرته الفنية وتغني ثقافته».

أما حول مشاركاتها، فقالت: «شاركت بعدة معارض وملتقيات تحت رعاية وإشراف وزارة الثقافة، منها: معارض "الربيع"، وملتقيات "الشباب"، وغيرهما، ومعرضان جماعيان، ومعرض فردي في عام 2016 ولديّ مشاركات في ملتقيات دولية في "إيطاليا وتركيا"».

أحد أعمالها الخشبية

كما تواصلت المدونة مع الفنان "عبد الرحمن مهنا" ليحدثنا عن أعمال "جوليا"، حيث قال: «"جوليا" إنسانة جادة وصادقة في عملها إلى أقصى حدّ، وإن كانت تتعامل مع المادة بطريقة صلبة، فهي تنسجم بذلك مع حياتها القاسية التي عاشتها، وتعبر معظم أعمالها عن حالات حوارية؛ فنراها تقيد أشكالها الخشبية بالسلاسل تعبيراً عن القيد الذي يُمارس تجاه الإنسان المعاصر، أو تجسد المرأة والرجل في حالة عناق أبدي تاركةً مسحة من الكبرياء والفراغ في ذهن المتلقي، وأكثر ما يميزها اتباعها خيالها في تجسيد أفكارها، حيث لا تلجأ إلى النقل والتقليد، وإنما تنظر إلى منبع الجمال في داخلها بحثاً عن ذاتها، وتعبّر عن حالة حركية تضج بالقدرة الاحترافية على تحويل الفكرة إلى شيء ملموس وواقعي».

وأضاف: «وهي تنقلنا في عالمها بحثاً عن الدفء والحب والسعادة باختزالها حواراً يخاطب العقل، حيث الخشب لم يعد خشباً، وإنما هو راوٍ لقصة حياة ومحرك لعواطف تبدأ بالتكوين ثم تتكون عبر الانحناءات؛ ليصبح خلف كل تشعب حالة شعورية ملأى بالدهشة والروعة تضمن من خلالها جمالية كل عمل فني وتفرده عن سواه».

بقي أن نذكر، أن الفنانة "جوليا وهبي" من مواليد "دمشق" عام 1980، وتنحدر عائلتها من قرية "حضر" في "جبل الشيخ"، وقد درست في معهد "الفنون التطبيقية" بـ"دمشق"، قسم النحت.