يرتحل الفنان التشكيلي "ابراهيم جلل" في لوحاته إلى عالم لوني مشكل بالخطوط الاحترافية المبدعة، حيث ينسج لنا قيماً جمالية وبصرية استمدت من خبرة تشكيلية على يد أهم التشكيليين السوريين والفرنسيين.

موقع "eDamascus" التقاه ليحدثنا عن تلك الوهلة الأولى التي داعبت أفكاره ودخلت الريشة إلى عالمه الفكري واللوني، فيقول: «اكتشفت عشقي للرسم في السادسة من عمري، عندما نظرت منبهراً إلى أخي الكبير وهو يرسم بالفحم؛ وجهاً جميلاً لفتاة شابة، بكثير من الدقة والتقنية، وكأنني اكتشفت شيئاً عظيم الأهمية، له تأثير كبير في عالمي الداخلي، وهُيئ لي أن باب سعادة انفتح لي، وأصبح الرسم عندي تعويضاً وبديلاً لشيء ضاع مني، أبحث عنه، فقدته بفقدان والدتي وأنا في الثالثة من عمري، فكان الرسم ملاذي وشريك وحدتي، ومنذ ذلك الحين أكن إلى الرسم والخربشة بجد أو بعبث، وهكذا بدأ إحساسي بالجمال ينمو مع مرور الزمن، وعندما تفتحت عيناي على الدنيا وجدت والدي يحيك القماش على نول كبير في بيتنا».

إن "ابراهيم جلل" عارف بأصول حركة الريشة في الرسم وفي ضبط تنظيم العناصر على سطح اللوحة يدرك لدى تأمله للوحات "ابراهيم جلل" كيف يطرح عناصره في نظام مربع أو دائري، وفي ذلك خصب في الزركشة بما يوحي ببيوت مؤنسة ونبتات، أو يوحي بقامات مليحات تملأ الفراغ، هذا الفراغ الذي تحيكه نبضات اللون الأحمر أو الأزرق أو الأصفر الحيادية الفصيلة، أو تحيكه مجموعة الألوان المخملية المشبعة

يتابع: «كان بيتنا قبلة لنساء الأقرباء والجيران ليلاً، يأتين للعمل سوية في نسج الأطباق الكبيرة الدائرية من القش "القصل" الملون والتي توضع في الأرض كسفرة عند الفلاحين، كانت أشكال وألوان الأطباق وكل ما جاورها من قصل ملون باعثاً لاستمرار غبطتي وحبي للألوان واهتمامي فيما أرى، زاد على ذلك أن في بيوتنا الريفية من منطقة "جبل الزاوية"، تقصّ النساء قطعاً صغيرة من القماش الأسود والملون، ليلصقنه على مادة الحوار الأبيض الداخلية لجدران بيوتهن، في تكوينات وأشكال نباتية وحيوانية، كالشجرة والغزال والعصفور، كم ذلك جميل، عندما يكون محيطاً بنافذة صغيرة، أو على مساحة بيضاء بيدٍ ماهرة وعينٍ ذواقة، هكذا عشت طفولتي في جوٍ من الألوان الجميلة الفرحة.

حرارة الألوان

درست المرحلة الإعدادية والثانوية في "معرة النعمان"، وكان فيها بازار كل يوم سبت، والمشهد الذي كان يجذبني أكثر من غيره في ذلك اليوم هو ألوان ثياب البدويات المخملية الملونة، والساطعة تحت أشعة الشمس، "أحمر، أصفر، أزرق، أسود وبنفسجي" مع ما يحملن على رؤوسهن من زينة الألوان، مساحات لونية تغني بألحان أخاذة كآلات موسيقية نحاسية، كانت تلك الألوان تغطي أجسادهن من الرأس إلى الكعب، كنت في سوق المدينة أراقب اكتظاظ الناس، وحركتهم بملابسهم الملونة المزخرفة بالحرير على ثياب النساء، كانت عيوني مفتوحة وكانت سعادتي دائمة».

يتابع: «لقد أثّرت هذه الألوان وشاركت في ذاكرتي البصرية، ذخيرتي المخزونة، حتى أصبحت مرجعاً أحياناً، منذ طفولتي وستبقى هكذا. في عام 1969 انتقلت إلى "دمشق" للدراسة في كلية الفنون الجميلة –جامعة "دمشق" وتعلمت تحت إشراف المعلمين الأفاضل الأساتذة الفنانين "محمود حماد"، و"فاتح المدرس" رحمهم الله، والأستاذ المعلم الفنان "إلياس زيّات" أطال الله في عمره. فتنقلت بين أحلام وشرود وشاعرية "فاتح المدرس" اللونية، وروحانيات وشاعرية "إلياس زيّات" وخفة دمه، ثم عقلانية "محمود حماد"، وحبكه وإحكامه للشكل واللون والتكوين، وكأنه يقصّ في مقص ذهبي أو يزين في ميزان للألماس، وكل شيء بقدر.

دفء الشمال السوري

وتحت إشرافهم حصلت على شهادة الدبلوم، وفي نفس السنة في تخرجي 1973 ذهبت إلى "باريس" في زيارة لمدة أيام، وطالت الأيام، وفي عام 1974 تم قبولي في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، وبدأت أعمل في مشغل الفنان الأستاذ "سانجييه"، وهو علم من أعلام الفن التجريدي العالمي، وهو ممثل كبير للمدرسة الباريسية الفنية 1925 ومن أعلام هذه المدرسة "بازين، مانسييه، ايستيف" وغيرهم، تعلمت من أستاذي ومن زياراتي للمعارض والمتاحف، وللمشاغل الأخرى في مدرسة الفنون، واحتكاكي بالفنانين، ومن أسفاري لعواصم الفن في العالم، وكان خير معلم هو العمل الدؤوب والقرب منه دائماً واستمرارية تأملي له، هكذا قد تنفتح لك أبواب عالم التصوير وأسراره في اللون والمادة، عندها فقط كل ما تعمله يحمل بصمتك ونفسك، يحمل خواصك كما تحمل ثمرة التين طعمها، وتحمل زهرة الياسمين لونها ورائحتها».

ويقول عنه التشكيلي السوري "إلياس الزيّات": «أكاديمياً فقد تأسس هذا الفنان في كلية الفنون الجميلة في "دمشق" التي انتسب إليها في عام 1969 وقد أتم تحصيله في المدرسة الوطنية العليا للفنون في "برايس" منتسباً في عام 1974.

وفي مقابلة معه يقول "ابراهيم": «في "دمشق" تتلمذت على الأستاذ "فاتح المدرس" وعرفت رؤاه وشاعريته، وكذلك تتلمذت على الأستاذ "محمود حماد" وعرفت عقلانيته في إحكامه لعناصر اللوحة، وكأنه يقص كل شيء بقدر بمقص ذهبي، أما في مدرسة "باريس" فعملت تحت إشراف الأستاذ "سانجييه" وهو من أعلام التصوير الفرنسي المعاصر".

ومن هنا نرى أن الفنان "ابراهيم" تبلورت تجربته الفنية في "باريس"، فيرسم المقاهي وروادها هناك، وتأسره حركة مستقلي عربات المترو وتوضعهم فيها متكدسين يأخذهم الإنهاك إلى انكفاء كل منهم على ذاته متفكراً، وإلى ذلك لا يتوانى فناننا عن رسم الوجوه والهيئات بواقعية حيناً وبشاعرية حيناً آخر».

ويختم "الزيّات" بالقول: «إن "ابراهيم جلل" عارف بأصول حركة الريشة في الرسم وفي ضبط تنظيم العناصر على سطح اللوحة يدرك لدى تأمله للوحات "ابراهيم جلل" كيف يطرح عناصره في نظام مربع أو دائري، وفي ذلك خصب في الزركشة بما يوحي ببيوت مؤنسة ونبتات، أو يوحي بقامات مليحات تملأ الفراغ، هذا الفراغ الذي تحيكه نبضات اللون الأحمر أو الأزرق أو الأصفر الحيادية الفصيلة، أو تحيكه مجموعة الألوان المخملية المشبعة».