الموسيقا حياة كما قال الكثيرون من مبدعي الفن في العالم، ومن هنا ينطلق المبدع السوري "عابد عازرية" ليرحل بنا إلى الإنسانية كفنّ ومعنى، يخلق لنا عوالم ذاتية ولدت من بطن تلك الحضارات التي سكنت سورية بروحها وحروفها الأبجدية.

موقع "eDamascus" التقى الموسيقي "عابد عازرية" خلال زيارته لدمشق، فحدثنا عن بعض تلك المكنونات التي تسكن موسيقاه، فكان لنا معه اللقاء التالي.

لقد ارتحل "عابد عازرية" عبر ثقافات الشرق الأدنى والبحر المتوسط جميعها، وأرى أن أفضل طريقة لإدراك السر الجميل لحضورنا في هذا العالم بعيداً عن الفذلكات الباطلة تكمن في التوليف المطلق والوحيد والأسمى للموسيقا، وبهذا يستطيع أن ينضوي تحت عباءة الروحانية الصوفية، عبر الاحتفاء الخالص بالفن الموسيقي. يسمو "عابد عازرية" فوق الشأن الديني والعقائد والمذاهب كلها، ليبلغ كونية يحتل فيها الحب مكان الصدارة، وهذا الحب ليس مائعاً، إنه المطرح الذي يجمعنا كلنا في رقصةٍ معينة، في تواؤم منضبط، إنه الحب الذي يضرب صفحاً عن غياب بنانا الهوياتية ويدلف إلى كل خليقة، مهما كانت متواضعة

  • حدثنا أكثر عن سبب عملك على الوثائق والمخطوطات لخلق أغاني تراثية؟
  • مع ابنته

    ** عشقي لحضارة الشرق والحضارة الموجودة في منطقتنا بالتحديد دفعني إلى العمل على النصوص الحضارية مثل الألواح الفخارية، الكتب، الوثائق والمخطوطات، لأنها كلها شواهد على هويتنا وتراثنا، فأنا لا أعمل على أغنية ستنجح أو تذاع في التلفزيون ويرقص عليها الناس، إن سمعني فقط عشرون شخصا فليس لدي مانع حيث هدفي ليس الانتشار، فالموسيقا فيها فكر وتفكير عميق بالحضارة التي أحاول تقديمها عبر أغانيّ، في عملي أبحث عن هوية المنطقة كلها من السومريين إلى يومنا هذا، وبآن واحد أسعى لاستعادة الشخصية الإنسانية الموجودة فينا، فمثلاً كان مدير متحف "اللوفر" في الستينيات هو الذي اكتشف "ماري" واسمه "اندريه بارو"، ويقول "أندريه" في مقدمة كتابه عن سومر وبابل إن البشرية اليوم مدينة لسورية بكل شيء، لأنها هي التي أعطت للبشرية الأبجدية والأحرف والأرقام، ونحن اليوم لا شيء، لا نعطي شيئاً، من هنا يجب أن نستعيد تلك الهوية التي ننتمي إليها، والتي جئنا منها ونكون موازين للعالم وليس أن نكون لاحقين ومقلدين، يجب أن يكون لنا أشكالنا الخاصة والمرتبطة بتراثنا وحضارتنا، لذلك في الموسيقا التي أعمل بها أحاول أن أختلق أشكالا آتية من القوالب التي دونت عن حضارة المنطقة، وهي بآن واحد قوالب مفتوحة على الموسيقا العالمية، مفتوحة على الجاز والكلاسيك وكل شيء.

  • هل ثمة تقليد لأحد ما في هذه الموسيقا؟
  • في دمشق

    ** أنا لا أقلد أحداً في موسيقاي، لكن الذي أحتاج إليه آخذه إذا كان هناك ضرورة، وبآن واحد استفيد من خبرات الموسيقيين والتجارب الموجودة في العالم، ومن ثم أحاول أن أعمل لها شخصية وهوية اليوم، فهوية اليوم والشخصية هي التي أبحث عنها طوال حياتي.

  • لكن ماذا عن دمجك للموسيقا الشرقية بالغربية؟
  • عابد عازرية

    ** أرحل واحلق مع آية موسيقا ترتبط بها روحي ومشاعري، فلا أميز بين تلك التي تسمى الآلة الشرقية أو الغربية، وإنما أجد علاقة تربطني بها وبمجرد العزف عليها استطيع أن أرى مدى قابلية هذه الآلة ووجودها في موسيقاي، فمثلاً لا أعزف مع اليابانيين لأن ليس لدي هذا الطموح، لكن إن صار لدي طموح بذلك، فلم لا؟

    في الموسيقا والفن لا يوجد هناك انغلاق، فإن استطعت أن أعمل مسرحية غنائية فيها أربع لغات، ليس هناك مشكلة، وقد قدمت خلال أعمالي الموسيقية الشعر الأندلسي، العربي والاسباني، والناس كلها سرت وكانت من بين أكثر الاسطوانات التي بيعت في أوروبا وانتشرت بكل العالم وأمريكا اللاتينية، وحتى في فيتنام، وسبب هذا الانتشار كله هو أن ليس لدي إشكال بالتعامل مع اللغات والثقافات الأخرى، أنا لم آت لأعمل موشحات كما كانوا يقولونها، فهذا كان جميلاً وكان له زمنه، ما يهمني هو أن أصنع موسيقا شرقية مستوحاة من عدة أشياء، لكن لها خصوصية بأن يكون لدينا شخصية محلية كبيرة فيها، فالأبجدية مثلاً الأوغاريتية هي معادلة بين الكتابة المسمارية والكتابة الفرعونية، والسوري رجل معادلات لديه الطاقة الإنسانية الكبيرة التي تعطي الإبداع، هنا أسأل نفسي دائماً لماذا لا نصل إليها وندرسها ونفعلها جديداً، اليوم الصراع الكوني كله مبني على فعلين فعل الملك وفعل الكون، كان من قبل فعل الكون هو المسيطر على كل شيء، أنا أكون وأفكر فإذاً أنا موجود، واليوم أنا أملك فإذاً أنا موجود، لذلك اليوم تنهار الحضارة وتتدهور، فيجب أن يكون وراء كل عمل هدف إنساني، إذا لم يكن هناك هدف إنساني فقد ذهبنا في الحضيض، هذا كان هدف القرن الثامن عشر الذي ظهر في أوروبا، كانت تسمى فترة التنوير، وهي أجمل فترة في التاريخ، ففولتير وغيره أعطونا دروساً كبيرة في هذا المجال يجب أن نستفيد منها في حضارتنا.

  • هل يجب ان نقلدهم في ذلك؟
  • ** ليس من الضروري أن نقلدهم، ولكن يجب أن نستفيد منهم، وأن يخرج أناس تنويريون ومتنورون، وليس ان نصبح متعصبين بالدين أو السياسة والاقتصاد، فيجب الانفتاح وهذا طبيعة السوري.

  • ماذا عن الذين يصفونك بالصوفي في موسيقاك؟
  • ** الصوفية فكر لاهوتي فلسفي نشأ في القرن التاسع وانتهى في القرن الثالث عشر، فالذي يسمي يصف الآخر اليوم بالصوفي، هناك غلط في التسمية لأن الصوفية حركة فلسفية لاهوتية، اليوم هناك أناس يسمون أنفسهم "دراويش" يدقون ويغنون، فيأتي أناس دجالون من بلادنا ومن غير بلادنا يقولون عنهم صوفيين لأن الكلمة منتشرة على الموضة، فالتصوف هو إبداع فكري لاهوتي وموقف من الكون، وعندما تقف "رابعة العدوية" لأول مرة في تاريخ الأديان وتقول أنا لا أخاف منك يا الله ولا أخشاك، أنا أحبك، اصبح الله عندها صديق وحبيب حميمي، فالله موجود في كل شيء، وفي هذا المعنى التصوف كانت مدرسة فلسفية إنسانية كبيرة جداً، واليوم يمكن أن نتعلم منه أشياء كثيرة، لكن أن نقول إننا صوفيون فهذا من الافتراءات الكبيرة على النفس.

  • إذا هل لنا أن نسمي الفن معرفة مثلاً؟
  • ** الفن ليس فقط معرفة، هناك شيء بيولوجي موجود فيه موجود في دمك، فمثلا "بيكاسو" عاش طوال حياته في "فرنسا" لكن أكثر منه أندلسياً في العالم لا يوجد، و"مانويل ديفايا" مثلاً موسيقي عبقري عاش في "الأرجنتين" ومات هناك فهو إسباني أندلسي فلامنكو وكان سيمفوني أيضاً، فهذه القصة إن لم نفهمها هكذا يكون هناك ضياع كبير، أنا جزء من كل البلاد التي عشت فيها وسافرت لها وتعلمت منها وأنا بادئ ذي بدءٍ هاو مبتدئ في الحياة أتعلم كل يوم عشرة آلاف عمل، وأتمنى أن أتعلمها بشكل صحيح، لأني أغلط كثيراً كالعادة وهكذا هي الحياة، تجارب.

  • أخيراً "عابد عازرية" بعد كل هذا الجهد والعمل في الموسيقا السورية، ماذا كان شعورك خلال تكريمك منذ فترة في وزارة المغتربين ولأول مرة في سورية؟
  • ** كانت من أجمل المفاجآت، وهذه أول مرة أحس بهذا الإحساس في بلدي سورية، أتيت مرتين إلى سورية أول مرة عن طريق احتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية، والمرة الثانية عندما كان هناك إنتاج مشترك بين "فرنسا" وسورية وأنا لم أتدخل فيها، وهنا كرمتني وزارة المغتربين السوريين وكانت أجمل اللحظات التي عشتها في الوطن بتكريم جهدي في العمل على الموسيقا السورية وحضارتها الغنية التي تحسسني بأني سوري للعظم.

    ويقول الموسيقي "هوبير حداد" عن "عابد عازرية": «لقد ارتحل "عابد عازرية" عبر ثقافات الشرق الأدنى والبحر المتوسط جميعها، وأرى أن أفضل طريقة لإدراك السر الجميل لحضورنا في هذا العالم بعيداً عن الفذلكات الباطلة تكمن في التوليف المطلق والوحيد والأسمى للموسيقا، وبهذا يستطيع أن ينضوي تحت عباءة الروحانية الصوفية، عبر الاحتفاء الخالص بالفن الموسيقي.

    يسمو "عابد عازرية" فوق الشأن الديني والعقائد والمذاهب كلها، ليبلغ كونية يحتل فيها الحب مكان الصدارة، وهذا الحب ليس مائعاً، إنه المطرح الذي يجمعنا كلنا في رقصةٍ معينة، في تواؤم منضبط، إنه الحب الذي يضرب صفحاً عن غياب بنانا الهوياتية ويدلف إلى كل خليقة، مهما كانت متواضعة».