على كراسي من الخيزران ووسط ديوان دمشقي في "دار الفنون" أشرقت أنوارهم ليكرموا "الأخوين رحباني" في "دمشق" التي لطالما احتفظت معهم بذكريات قديمة، جاؤوا ليتحدثوا عن مشوارهم الفني المشهور، وليقولوا لهما مازلتما تخفقان مع دقات القلب بين رقرقة "بردى".

موقع "eSyria" وبتاريخ 26/2/2009 حضر الأمسية التي أقيمت في "دار الفنون" وتحت رعاية السيدة "رحاب ناصر"، التي قامت بدعوة كل من السادة "دريد لحام"، و"رجا شوربجي"، و"الياس رحباني"، والصحفي "جان الكسان"، بمرافقة المغنية والفنانة "مي نصر"، ليرسلوا تحية من "دمشق" هذه المدينة الجميلة إلى "الاخوين رحباني".

كانت كراسي الخيزران قد امتلأت بالحضور من شباب وشيوخ، وخلال جولتنا بينهم التقينا بصاحبة الدار السيدة "رحاب ناصر"، التي حدثتنا عن هذه الأمسية والفرح يغمر عيونها: «نحن هنا اليوم لتحية "الأخوين رحباني" وبحضور من أصدقائهما والمقربين لهما، الذين سيتحدثون لنا عن فنهم وذكرياتهم، وستكون "مي نصر" اللبنانية المولد والسورية الهوى بصوتها الفيروزي حاضرة لتكمل المؤسسة الرحبانية، فدعوتنا لهم هو بمثابة تكريم للإخوة الرحابنة، خاصة بعد مرور أربعين يوماً على رحيل "منصور الرحباني"، هذا أكبر دليل على أن فن الرحابنة كان لكل العرب وللسوريين حصة من فنهم وتكريمهم في هذه المدينة العريقة "دمشق" هو جزء من رد المعروف الذي قدموه للفن العربي».

تحية حب وشوق

كان الهدوء قد عمّ المكان بانتظار من يبدأ الحديث، والصمت قد كسر الصقيع فانبرى إلى الحديث مقدم الأمسية الفنان السوري "سعد مينه" قائلاً: «لم تحتضن ابناً كما احتضنتهم، ولم يغنوا لمدينةٍ كما غنوا لـ"دمشق"، "دمشق" التي فتنت الرحابنة بسحرها، والرحابنة الذين سحروا أهلها بشدوهم كما لم يفعل أحد، اليوم، بعد نصف قرن ونيف على تدفق نبع الرحابنة في شرايين الشام، نستعيد اليوم ذكرى الزمن الجميل مع من تبقى من أصحابهم وأصدقائهم، في هذه المدينة العتيقة كنهرها ونبيذها وأساطيرها، فأهلاً بكم في سهرة وتحية لأولئك الطيور في جنات الخلد».

"سعد" و"مي" بدأا حوارهما بالكلمة والموسيقا، في الوقت الذي كان الجميع بانتظار سفير المدرسة الرحبانية في "دمشق" ومن دون أوراق اعتماد -على حد تعبير "سعد"- "الياس الرحباني" ليتحدث عن شوقه "للاخوين رحباني"، ليقول وهو يبتسم: «حكمت أسرة الرحابنة وسلالتها قلوب السوريين منذ نصف قرن وما تزال على الرغم من غياب الآباء المؤسسين، وقد وزعت حكومة الرحابنة الفرح والحب بالتساوي بين رعاياها، كما نشرت مفاهيم المساواة والعدل والحرية في أغانيها، كانت لـ"دمشق" في قلب "الاخوين رحباني" ذكريات جميلة وعميقة، ونحن الرحابنة لم نفكر يوماً بأن لنا عاصمة وحيدة، بل إن "بيروت" و"دمشق" هما عاصمتان جميلتان للرحابنة ولفنهم، رحل "الاخوين" وتركا لنا مشواراً طويلاً لنكمله ونطوره، قدما لنا الكثير الكثير لنعمل من بعدهم ونوزع رائحة فنهم بين طيات كل القلوب».

حينما تبدع "مي"

بالحمرة التي تعلو وجه "مي" أنهى "الياس" حديثه لتبدأ هي بالعزف وترتجل، في حين شقت ابتسامة خفيفة من "الياس" طريقها لتحية "مي" وصوتها الذي كان يتوزع بين أركان ذلك البيت الدمشقي، وليقوم "سعد" بعد ذلك بدعوة شيخ الكوميديا السورية "دريد لحام" كما وصفه ليتحدث عن بعض ذكرياته مع "الاخوين رحباني"، فلم يبدأ "لحام" بتلاوة خطاب أو كلمة عادية إنما بدأ حديثه بقوله: «أشعر أنني مع فرقة موشحات وسنقيم (مولداً) بعد قليل».

لم يكن "لحام" محللاً في حديثه ولا ناقداً مثلما قال، بل حاول أن يعبر عن مسيرة الرحابنة بكل عدل ومساواة وبكل شوق وحنين، هنا وعن وجع الغربة وجراح فلسطين والأشرعة التائهة في بحار الدم والدموع والحنين يتحدث شيخ الكوميديا السورية "دريد لحام" كما وصفه الممثل "سعد مينه" قائلاً: «في الزمن الذي سيطرت فيه عنجهية البلاغة العربية وهيمنت لغة الخطاب الثورجي على الأغاني الوطنية المساندة للحق الفلسطيني، تحدث الرحابنة بلغة عقلانية شفافة رفيعة المستوى، فجسدوا غربة الفلسطيني الجسدية والروحية عبر أغانيهم التي كانت تترك سائر مستمعيها في حالة من الاغتراب الوجداني الذي يوحد مصائرهم مع أهل فلسطين المحتلة، فكانت كالجمر الذي يحافظ على جذوة الحنين وإرادة المقاومة، خلال نصف قرن لم تتوقف فيه إسرائيل عن قتل حفظة أغاني الرحابنة لفلسطين الجريحة، غنوا لكل شيء فحتى النميمة لم تسلم من ألفاظهم، "الاخوين رحباني" لم يغنيا لـ"لبنان" و"فلسطين" فقط بل حاولا أن يكون لهما في كل أمة ووطن عاصمة وبيت مزين بفنهما وكلماتهما التي تدخل القلب من دون استئذان، ونحن اليوم من هنا من هذا البيت الدمشقي الذي يحمل رائحة بلون الياسمين نبعث بتحية شوق ومحبة لهما للذين زينا الطريق الفني ورحلا وتركا المهمة لأولادهما وأحفادهما ليكملوها».

سفير الرحابنة "الياس"

بدأ "دريد لحام" حديثه بالحياة وأنهاه بالأمل، حيث أنامل "مي" كانت تزين السماء بصوتها الفيروزي، في حين أن الفنان "الياس" نظر إليها بابتسامة تدل على رضاه من فنها، وبعد قليل من استماع ذلك الفن الرحابني قام "سعد" بتقديم "رجا شوربجي" الذي بدأت صداقته مع الرحابنة منذ قرن وما تزال، وبدأ "شوربجي" حديثه في حين كان يشاكسه "الياس" وهو يبتسم: «لم يكن صدفة أن أبناء "منصور الرحباني" فتحوا عزاءً لوالدهم في "دمشق"، المدينة التي خصها "الاخوين رحباني" بست عشرة أغنية من ألحانهما، خمسٌ منها من كلماتهما، فقد كانت "دمشق" الشامَ مصدر فخر واعتزاز الرحابنة التي شكلت إذاعتها ومعرضها بيتهما الثاني منذ عام 1952، العام الذي صدرت فيه أول مجموعة شعرية عن دار الرواد بدمشق مزّينة برسوم الفنان السوري الراحل "أدهم اسماعيل" وبعد ذلك لم تضطر مطابع "دمشق" أن تطبع لهما لأن سائر الشعب السوري صار يفتتح يومه بأغانيهما عبر البرنامج الإذاعي اليومي "مرحباً يا صباح"، لن أتحدث كثيراً عنهما لأنهم ورود زينت بيوتنا كلنا، ولم يفكرا يوماً بأن "دمشق" ليست بيتهما أو منزلهما الثاني، كانت لهما ذكريات كبيرة في "دمشق" ومع فنانيها وكتابها وأدبائها، كانا منارة فنية شعشعت في العالم الفني وسيظلان شمعة سنضيء بها دروب الأجيال القادمة، الاثنان خاناني ورحلا.. تركاني لوحدي وتركا معي ذكرياتهما الجميلة التي قضيناها بين أزقة "دمشق" القديمة، رحلا وفي قلبهما حسرة بأن يعملا عملاً لـ"دمشق" عاصمة الثقافة العربية، فتحية حبٍ وحب وحب لهما في مرقدهما وموطنهما الجديد».

بدمعة حزينة وهادئة وعلى دندنة "ياستي ياختيارة" من "مي"، أنهى "رجا شوربجي" حديثه، فاستمر التصفيق وهم يلوحون لذكرى "الاخوين" ولأعمالهما التي سكنت ركناً كبيراً من القلب، نعم كانت هناك دمعة حزينة في عيونهم وهم يسترجعون ذكرى رحيلهما، في الوقت ذاته انبرى إلى الحديث الأستاذ الصحفي "جان ألكسان" الذي كان يحتفظ بذكرياته الإعلامية معهما فقال: «في أغانيهما لـ"دمشق" جمع الرحابنة عبقريتهما مع عبقرية "سعيد عقل" و"بدوي الجبل" و"الأخطل الصغير" فألهبوا حماس شعب خرج حديثاً من تحت نير الاحتلال وراح يتذوق طعم الحرية والاستقلال، وكان وقتها للصحافة مجدها قبل تأميمها، الصحافة التي تعاملت مع إنتاج الرحابنة بجدية كاملة وحماس منقطع النظير فوفرت بذلك بيئة ملائمة وتربة خصبة لازدهار المدرسة الرحبانية التي نهل السوريون منها حتى غدت أغاني فيروز جزءاً من هويتهم الوطنية، كنت أول من أرخ تاريخ الرحابنة في كتاب صدر بعد رحيل "عاصي" سأقوم بإصدار ذلك الكتاب من جديد مضيفاً عليه أشياء ومعلومات جديدة، لربما يكون جزءاً من تكريمهما ووفائنا لهما».

«بيني وبينك ياهالليل»، بهذه الكلمات أنهت "مي" حديث "جان"، وحاولت أن تنشد بأعلى صوتها لتقول:لكما يا ورود الرحابنة ألف تحية وتحية، لكما زنبقة وياسمينة دمشقية ترحل إليكما لتحييكما وتودعكما، ومع بكاء "رجا شوربجي" اختتم سفير المدرسة الرحبانية كما وصفه "سعد مينه" الأستاذ "الياس الرحباني" الأمسية بقوله: «رحلا وتركا لنا مهمة صعبة، رحلا وتركا في قلوبنا أشياء جميلة، واليوم هنا من "دمشق" نرسل لهما باقة من الياسمين الدمشقي، وأرسل لكم بدوري باقة ورد من "بيروت" الجميلة لتقول كل الشكر لكم ولإستضافتكم لنا وللرحابنة على مر السنين».

انتهت الأمسية في حين كانت الوسائل الإعلامية تتقدم للحديث معهم ومع الحضور، وخلال تواجدنا على خشبة المسرح، التقينا بالفنانة "مي نصر" اللبنانية المولد والشامية الهوى، التي حدثتنا عن هذه الأمسية وسبب خجلها وارتباكها على المسرح هذه المرة: «حضوري هنا بسبب وجود فعاليات كبيرة ومهمة في سورية، هي دعوة تعني لي الكثير لأشارك في تكريم "الاخوين الرحباني" في مدينة "دمشق" العريقة، ولربما كان هذا سبب ارتباكي في إحدى الأغاني، حيث برحيل "عاصي" فقدنا ركناً كبيراً من حياتنا الفنية واشتقنا له وأحسسنا بغربته، أما "منصور" فهو الذي أكمل مشوار "عاصي" ووصل، واليوم خسرنا الأخوين معاً ويجب علينا أن نحافظ على مشوارهما الفني ونطوره ونرتقي به لنحاول أن نقدم جزءاً صغيراً مما قدماه لنا، فما زال هناك فن ملتزم في الوطن العربي وهناك جمهور يلتزم بهذا الفن ويحافظ عليه ورسالتنا لهؤلاء أن نقدم لهم كل يوم باقة ورد جميلة لنتذكر بها "الاخوين رحباني"».

رحل الجميع وانتهت الأمسية وبقيت رائحة ذلك الحديث الدافئ تغمر بين حنايا "دار الفنون" المعبق برائحة الياسمين.