«إلى ذكرى أمي.. إلى زوجتي.. إلى ابنتيَّ، وجميع نساء العالم.. مشعلات الحروب الصغيرة، وضحايا الحروب الكبيرة..» إلى كل هؤلاء أهدى المخرج السوري "مانويل جيجي" مسرحية "صوت ماريا".

وتابع "مانويل" قائلاً: «قد نكون أضعنا الكثير من حياتنا في اللهاث وراء القضايا التي حسبنا أنها كبيرة، ونسينا الأشياء الأهم في الحياة وهي الحالة الإنسانية، ومن أهمها قضايا المرأة التي كانت مهملة على مر العصور، ولم تظهر إلا كضحية على مسرح الأحداث، فالعنف ليس جديداً، والنساء كن دوماً ومنذ القدم أهدافاً للحروب، ورهائن في النزاعات التي يشعلها الرجال. والواضح أن العدو لا يغتصب النساء من أجل تحقيق المتعة فقط، وإنما من أجل الظفر بالهزيمة النفسية والمعنوية لذوي المغتصبة، وذلك لأن الاغتصاب يدمر المجتمعات بشكل ما. فأنت تعاقب النساء والرجال عبر ذلك.. هذه هي الحروب يشعلها الرجال ثم يطفئونها في بطون النساء» ويختم بالقول: «إذا اغتصبت المرأة حملت بالجنين، وإذا اغتصَبَ الرجل حمل بالجنون.. وفي كل الحالات نحن..»

أنت محظوظة، لأنك لا تحتاجين إلى التعبير بالكلمات..

"صوت ماريا" مسرحية من تأليف البوسنية: "ليديا شيرمان هوداك"، وتمثيل: "فدوى سليمان" قدّمها "مانويل جيجي" في خمسة عروض على مسرح "فواز الساجر" الدائري في المعهد العالي للفنون لمسرحية بـ"دمشق" بين (8 و13/10/2008).

فكرة المسرحية تدور حول قصة اغتصاب إمرأة وابنتها في حرب أهلية في بلدٍ ما وزمانٍ ما، ومعاناتها وموت الابنة أثناء الولادة، والصراع الذي يدور في ذهن الأم/ الجدّة في تبني هذا الطفل نتاج الاغتصاب، والقسوة والحالة اللا إنسانية التي تسيطر على الناس في زمن الحرب. والتي غالباً ما تكون ضحيتها المرأة.

أما المعادل البصري لهذه المأساة فكان فضاءً مسرحياًً زاخراً بالألوان، وإن طغى عليه لون الدم، حيث قدّمت "فدوى سليمان" هذه المونودراما في إطار صياغة سينوغرافية استمدت مفرداتها من مناخات الإضاءة المتعددة، واللوحات التي ركزت موضوعاتها على وجوه شتى بتعابير حائرة، وملامح مبعثرة تفرّغ من خلالها "ماريا" شحناتها النفسية، ذلك لأن طبيبتها النفسية نصحتها بالرسم باعتباره أفضل الطرق لتفريغ ما يعتمل في دواخلنا، ولطالما قالت لها: «أنت محظوظة، لأنك لا تحتاجين إلى التعبير بالكلمات..» ولكن "ماريا" لم ترسم إلا الفوضى والدماء. رغم أنها أرادت أن ترسم الصيف، وروائح الأشياء التي تشعرها بالسعادة، إلا أن تلك المشاهد المأساوية كانت تتسلل إلى لوحاتها دائماً، في لحظات لطالما بقيت رهينة للحظة واحدة ظلت تلح على ذاكرتها المثقلة بالألم طوال الوقت، وإن كان المشهد الممهد لتلك اللحظة المستعادة وردياً بعض الشيء: «كان يوماً يشبه هذا اليوم.. بالضبط في حزيران الذي تزهر فيه أزهار التوت البري.. في الجبال ينساب النهر بهدوء تحت شمس الصيف.. انتظرت القطار.. وبجوار المحطة وقفت فتاة تنتظر بعمر السابعة عشر.. الحرب تخرّب كل شيء.. تغير كل شيء في ليلة..»

ولكن ماذا بقي من هذه الحرب في ذاكرة "ماريا"؟ مجرد قميص ملطخ بالدماء، وجعبة على الكتف تشير إلى رحلة لجوء قاسية تغيرّت فيها معالم المكان، وأصبحت لحظات الزمن أشد وطأة على إمراةٍ مغتصبة، فقدت ابنتها المغتصبة أيضاً ولم يبق لها من ذكراها سوى الألم وحفيدٍ هو نتاج الاغتصاب كان عليها اتخاذ قرارٍ أشد إيلاماً في تبنيه باعتباره يحمل بقايا عدوٍ غاصب وابنةٍ غيبها الموت قهراً، تجلت ملامح هذا الطفل في دمية مقطوعة الرأس حمراء بلون الدم، عبّرت عنه "ماريا" بصوتها القادم من عمق المأساة في جملةٍ بدأت بها المسرحية وأنهتها أيضاً: «هذه الطفلة الصغيرة وحيدة وعارية، مثل قمرٍ وحيد يسافر عبر السماء وحيداً وعارياً..»

موقع "eSyria" حضر العرض الأخير من المسرحية في 13/10/2008 والتقى بالممثلة "فدوى سليمان" التي تحدّثت لنا عن دورها قائلة: «عادة ما تكون المرأة الحامل سعيدة بانتظار طفلها، لكن هذا الانتظار يصبح مقيتاً عندما يكون الطفل نتاجاً للاغتصاب، فكيف إذا كان المغتصب عدوها؟!.. أنا وضعت نفسي مكان "ماريّا" ولكنني لا أدري إذا كان بإمكاني الاستمرار في الحياة إذا واجهت نفس الموقف..» وتتابع "فدوى": «الاغتصاب الذي تعرضت له "ماريا" معنوي ووجداني وجسدي، وهي تلقت نتيجته وحيدة كي لا تمنح عدوها نشوة الانتصار أو تلحق العار بأهلها رغم أن مأساتها واضحة ومبررة وليس لها فيها أي ذنب، والتحدي الأكبر بالنسبة لها كان قرارها بتبني طفل بريء هو في الحقيقة حفيدها، لقد عاشت صراعاً نفسياً رهيباً، وتناولنا لهذه المأساة هو صرخة في وجه الإنسانية، أردنا أن نعبّر من خلالها عن قسوة هذه التجربة وبشاعتها..»

مانويل جيجي

وعن تحضيراتها للدور، ومدى صعوبته قالت "فدوى سليمان": «منذ شهرين ونصف وأنا أحضر لهذا الدور، اشتغلت عليه بالكلمة والصوت والجسد. "صوت ماريا" عرض ممثل بكل ما تعني الكلمة من معنى، ويستنزف كل طاقات الممثل التعبيرية لتقديم عرض مونودراما حقيقي، لقد أخذ مني هذا الدور جهداً كبيراً، لتقديم أكثر من حالة وأكثر من شخصية خلال ساعة متواصلة على المسرح وبطاقة متوازنة منذ بداية العرض إلى نهايته..» وختمت بالقول: «كنت أتحدى نفسي كممثلة طوال الوقت، وأتمنى لكل ممثل أن يخوض هذه التجربة لأنها ساحرة..»

كما التقينا أيضاّ المخرج "مانويل جيجي" الذي تحدّث لنا عن سبب اختياره لهذا النص بالذات ليجعل منه موضوع مسرحيته الحادية والخمسين قائلاً: «منذ زمن وأنا أبحث على هذا النوع من النصوص الذي يتناول مأساة الاغتصاب في الحروب، عثرت عليه بالصدفة في مجلة "المسرح" المصرية التي عادة ما تنشر نصوصاً مهمة، لقد أغراني هذا النص للكاتبة البوسنية "ليديا" لأنه قادم من قلب معاناةٍ حقيقية، وهذا الطرح نادر لجهة تناوله في المسرح، وأردت من خلاله تقديم إضاءة على هذه الحالة الإنسانية الأليمة والمسكوت عنها في مجتمعاتنا، خاصة فيما يتعلق بضرورة إيجاد حل للأطفال الأبرياء الذين يولدون كضحايا لهذه المأساة وقد تحولوا في العديد من المجتمعات إلى جيش حاقد يعبث باستقرار الانسانية وأمنها كما حدث في أكثر من حربٍ أهلية عصفت بعدة أماكن من العالم في تاريخنا الحديث، كما في "البوسنة والهرسك"، و"كوسوفو"، و"أفريقيا": "كالهوتو والتوتسي" وأخيراً في "دارفور"..» وأضاف "مانويل": «أشعلنا من خلال هذه المسرحية شمعة صغيرة، لكي نضيء من خلالها أكثر وأكثر على مأساة الاغتصاب، وليس بالضرورة أن يعاني مجتمعنا من هذه الجريمة الإنسانية لكي نتحدث عنها، أردنا أن نتحدث عن هذا الأمر عبر "صوت ماريا" لكي يكون لدى المتلقي السوري موقف واضح في المستقبل إزاء هذه الأحداث إيماناً منّا بدور المسرح كسلاحٍ فعّال في عملية التغيير الاجتماعي يمكن من خلاله رصد ردود أفعال الناس مباشرة ..»

وعن الرؤية الفنية التي اعتمدها في إخراج هذه المسرحية قال "مانويل": «النص بالأساس يعتمد على فكرة الممثل الواحد، أما بالنسبة لأدوات التعبير فهي تختلف من مخرجٍ لآخر وفقاً لقراءته لهذا النص، في هذه المسرحية جعلت من الخشبة مشفى ومرسم في ذات الوقت، واعتمدت على تغيير الإضاءة بحسب المناخ الدرامي المطلوب، فإضاءة البيت المشتتة على سبيل المثال تدل على تشتت الإنسان، كما استخدمت اللون بكثافة في هذا العرض لإبراز جانب جمالي إلى جانب المأساة، جانب حياتي رومانسي يوجد في حياة الشخصية/ الشخصيات المتعددة إلى جوار الألم. من رأى المسرحية قال لي كيف تستطيع أن تكون رومانسياً في هذا الزمن؟ فأجبته بأنه لا يوجد أجمل من الرومانسية، إنها جانب إنساني في حياتنا لا يمكننا الاستغناء عنه..»

لقاؤنا بالمخرج "مانويل جيجي" كان مناسبة لسؤاله أيضاً عن الظهور المتكرر للمرأة وقضاياها في مسرحياته فأجابنا: «إن إبراز القيمة العالية للمرأة هي من أهم خصائص المسرح الذي أشتغل عليه منذ بدايات مسيرتي المسرحية، ومن أبرز الأعمال التي قدمتها في هذا المجال "الآلية" التي فازت بجائزة أفضل سينوغرافيا وجائزة النقّاد لتكامل العرض المسرحي في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكذلك مسرحية "جيشا" التي ساهمت في تغيير حياة الممثلة التي قامت بهذا الدور وبصورةٍ جذرية، وهذا يؤكد مجدداً على دور المسرح في حياتنا عبر الصلة التي ينبغي العمل عليها جيداً بين المشتغل على المسرح والمتلقي.. أنا عموماً أحب أن أدافع عن النساء خاصة في الشرق العربي، وأعتقد أنه مهما اجتهدنا في إعطائهم حقوقهم نبقى مقصرين..»

وفي ختام اللقاء أراد "مانويل جيجي" أن ينقل أمنيته الخاصة للمعنيين بالمسرح السوري عبر موقع "eSyria": «أدعو من خلالكم أن يستمر المسرح السوري بشكلٍ أقوى، صحيح أن المسرح كما يقول الكثيرون: :لا يطعم الخبز"، لكنني عشت طوال عمري على الاشتغال بالمسرح و"صوت ماريا" هو عرضي الحادي والخمسين عبر مسيرةٍ مهنية طويلة، وأتمنى أن يحظى المسرح السوري بدعمٍ مادي أكبر لأنه إذا رفعنا الحالة الاقتصادية للمشتغلين به سيقدمون أقصى ماعندهم من الإبداع، وبهذه المناسبة أدعو كافة الممثلين السوريين الناحجين جداً في الدراما التلفزيونية أن يقدموا ولو عرضاً مسرحياً واحداً كل عامين على الأقل لكي يستمر مسرحنا بالإشعاع الثقافي والفكري..»