تتخلى الكتل الحجرية الضخمة بين يدي "لطفي الرمحين" عمّا يعتريها من البرودة والقسوة، فتغدو أكثر حميميـّةً، ونزوعاً للارتقاء، يقلـّبها من كل الوجوه، فيترك على كلٍ وجهٍ تفصيلاً يطغى تأثيره على المكان، وعلى صفحة الحجر تنعدم الزوايا الحادة، لتحلّ محلــّها الانحناءات الأكثر بوحاً، عمقاً، وإنسانية.

إنه اليوم الثالث والعشرون من أيام "ملتقى دمشق الدولي للنحت"، حيث يشارك "لطفي" إلى جانب عشرين نحاتاً سوريـَاّ وعالمياً في إبداعٍ منحوتاتٍ ستزيّن ساحات "دمشق" وحدائقها، وتساهم في تشكيل الذاكرة البصرية للأجيال القادمة.

جرأة أكبر في التعبير، ويجعل منه أكثر غنى من خلال الانفتاح على تجارب الآخرين

موقع "eSyria" التقى بالنحّات "لطفي الرمحين" بتاريخ 13/12/2009، وتناول معه فصلاً من رحلته الإبداعية مع فن النحت التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، وعرفت محطّات عديدة بدءاً من "دمشق"، وصولاً إلى فرنسا مكان إقامته، ومروراً بمدينة "كرّارا" الإيطالية، حيث أسس مع أخيه الأكبر، ورفيق دربه "بطرس الرمحين" مدرسة لتعليم تقنية نحت تعتبر أحد المقاصد الرئيسية لهواة ومحبي هذا الفن من كل أنحاء العالم. وخلال هذه المسيرة أقام الكثير من المعارض الفردية بين عامي 1975، و2009 حيث مازال معرضه الأخير مستمراً في "الآرت هاوس" بمدينة "دمشق"، كما شارك في العديد من ملتقيات النحت العالمية في السويد إيطاليا، فرنسا، وسورية، وانطلاقاً من خبرته في المشاركة في مثل هذه الملتقيات يَعتبـِر "ملتقى دمشق الدولي للنحت":«من الملتقيات المهمة عالمياً سواءً على صعيد التنظيم، أو المشاركين في الملتقى، حيث يـُعتبرونَ من النحاتين المميزين والمجتهدين على مستوى العالم، وتنتشر أعمالهم في أماكن مهمة من أوربّا»، كما أكّد "لطفي" أن النحاتين المشاركين: «مسرورون جداً من المستوى التنظيمي للملتقى، واهتمام الجهات المنظمة براحتهم، والرحلات التي قاموا إلى "تدمر، السويداء، ودمشق القديمة"، وتعرّفوا من خلالها على تاريخ سورية، وحضارتها».

أما المنحوتة التي ينفــّذها "لطفي الرمحين" في الملتقى فهي: «فكرة تجريدية، ذات بعدٍ إنساني، ومرتبطة بالعمق الإبداعي لمدينة "دمشق"، وتتكون من جسمين ينطلقان من القاعدة، ويرتقيان إلى الأعلى، حيث يتصلان في قمـّة المنحوتة، مع التركيز على القيمة البصرية والتشكيلية للعمل»، ويطرح من خلال هذه المنحوتة سؤالاً جديداً عن النسيج العمراني للمدينة، وموقفنا منه تاركاً للمتلقي الجواب عن هذا السؤال: «فمن خلال الحوار البصري مع المنحوتة نستطيع أن نجيب إذا كنّا نسير في الاتجاه الصحيح أم لا؟»، ويرى "الرمحين" أن الحجر التدمري أضفى على منحوتته سحراً خاصاً، فهو حجر: «دافئ ، متماسك، وله تاريخ».

وإلى جانب اهتمامه بالقيمة البصرية والتشكيلية لأعماله، ينظر "لطفي الرمحين" إلى المنحوتة ككائنٍ مفعم بالإحساس يعبـّر عن عواطف النحّات وذكرياته، ومن المهم أن تتآلف مع المكان وتحاوره بشكل جيد، وعندئذٍ تفرض وجودها عليه، كما يمكن أن تصبح عنواناً له.

كما يرى في النحت: «فنّاً مستقلاً بذاته، له كينونته»، ولا يجد مبرراً لأن تكون أعمال الفنّان منتمية لمدرسة فنـّية بذاتها، فالفن بالنسبة له حالة ذاتيـّة، ولكل فنّان مدرسته الخاصـّة.

أما السفر فهو فرصة للاكتشاف، وهذا من شأنه أن يعطي الإنسان «جرأة أكبر في التعبير، ويجعل منه أكثر غنى من خلال الانفتاح على تجارب الآخرين»، والإبداع بالنسبة للفنّان "الرمحين" لا يتعلق بالمكان، رغم أنه يستوحي تأثيراته من "دمشق" «بلد الشمس»، كما يختزن في ذاكرته البصرية صور آثار "عمريت"، و"عين دارة"، فهي بالنسبة له آثارٌ فريدة لها سحر خاص، ويعلّق على ذلك بالقول: «لم أر مثل هذه الآثار في حياتي»، ويعتبر أنها أكسبته قيماً عميقة.

منحوتة لطفي الرمحين.. أقرب إلى الاكتمال

ونختم بما قاله النحّات السوري "غازي عانا" عن تجربة "لطفي الرمحين" بمناسبة معرضه في "الآرت هاوس"- 2009 :«من خلال منحوتاته يكتشف المتلقي ببساطة أهمية احترام خصائص كل مادة على حدة، من شكل الصياغة أو طريقة المعالجة التي تخص كل خامةٍ دون غيرها، محققاً أميز حالات ارتقاء الكتلة في الفراغ، منحوتاته تنهض برشاقة متناغمةٍ مع ما يحيطها من مؤثرات، وأشياء تغلفها من الخارج، وفي الآن ذاته محافظة على ما تحتويه المنحوتة من الداخل محققة التفاهم والتناغم ما بين جماليات الشكل من جهة، ومضمون الموضوع الروحي والفلسفي من جهةٍ أخرى».