في مقهى الروضة الذي يحتل موقعاً هاماً من مدينة دمشق وذاكرتها قلّب الأب الياس زحلاوي صفحات ذاكرته بحضور العديد من محبّيه ومحبّي المدينة العريقة وأحد مقاهيها الذي لا ينقطع فيه الصخب على مدار اليوم منذ سنواتٍ و سنوات وتبدو كل زاويةٍ فيه مسرحاً للذكريات، ولهذا اختارتها احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 مكاناً لـ(نادي الذاكرة) أحد الفعاليات الثابتة ببرنامجها في يوم الاثنين الثاني من كل شهر.

في البداية أبدى الأب زحلاوي دهشته من المكان والفكرة (لم أكن أتوقع في حياتي أن أجد نفسي في مقهى أحادث الناس في أمورٍ تعيدني إلى الطفولة البعيدة وأنا اليوم في الخامسة و السبعين، و تجعلني أتوقف عند محطّات تشكلّ جزءاً من حياتي الكاملة في دمشق) ليستمر الياس زحلاوي في سرد ذكرياته لما يزيد على الساعتين، استعاد فيها ملامح شخصيّته كطفل وكاهن وكاتب مسرحي ومدرِّس وفنّان وأبٍ مؤسس لجوقة الفرح.

تحدّث عن طفولته في حيٍّ تحيط به بساتين الغوطة بمنطقة القصّاع- حارة الصليب الثانية التي تشكّل امتداداً لشارع بغداد أحد الشوارع الشهيرة في مدينة دمشق. زال الحي الذي نشأ في زحلاوي إلاّ أنه بقي في ذاكرته كما مدرسته وأصدقاؤه ومدينة القدس التي درس فيها اللاهوت على فترات بين عام 1945م وعام 1959م تخلّلتها حوالي السبع سنوات في لبنان من 1946إلى1952م وسنة في فرنسا 1955-1956م.

وصف زحلاوي انطباعه الأول عن مدينة القدس بعيون ابن الثانية عشر (عندما وصلت إلى القدس شرقي المدينة في منطقة أبوديس أحسست بأن هذه المدينة أسرتني، لم أدرك ما حدث لي يومها ، إلا أن هذا الإحساس لم يفارقني يوماً، للقدس طابع لا مثيل له في كل مدن العالم و حضور لا يشبهه أي حضور). في العام 1959عاد الأب زحلاوي إلى دمشق و رسِّم كاهناً في لبنان لمدة ثلاث سنوات وعندما أحسّ بأنه لا يؤدي الرسالة التي طالما أراد تأديتها ونذر نفسه لها قدّم استقالته، وطلب من البطريرك في دمشق أن يضعه في خدمة الشبيبة لتبدأ مسيرة حافلة بالإنجازات لزحلاوي ظهرت فيها شخصيته كمدرِّس وكاتب مسرحي ومؤسس لجوقة الفرح، في هذه المرحلة التي لازالت ممتدّةً إلى اليوم التقى الياس زحلاوي بالعديد من الشخصيات الذين أثّروا إيجابياً في حياته، وتعاونه معهم كان يكشف في كلِّ مرة عن موهبةٍ من مواهبه، ذكرَ منهم العديد من الشخصيّات: أنطون مقدسي- أديب اللجمي – حافظ الجمالي- نجاة قصّاب حسن- سعد الله ونّوس- ممدوح عدوان- عبد الكريم اليافي- علي عقلة عرسان- الياس زيّات- علاء الدين كوكش- كوليت خوري- نجاح العطّار- الشيخ أبو اليسر عابدين- و سماحة مفتي الجمهورية الراحل الشيخ أحمد كفتارو ... وتوقّف كثيراً عند المخرج الراحل سمير سلمون الذي أسس معه في عام 1968 فرقة (هواة المسرح العشرون) و تعاوناً معاً في ثلاث أعمال مسرحية، منها مسرحية (المدينة المصلوبة) عن الصراع العربي الإسرائيلي التي حازت على الأربع جوائز الأولى في مهرجان دمشق المسرحي 1973م: أحسن إخراج – أحسن نص- أحسن ممثل- أحسن ممثلة، وكان ذلك مناصفةً مع مسرحيّةٍ أخرى لنوّار بلبل. آخر الأعمال المسرحية لالياس زحلاوي (وجبة الأباطرة) تتحدث عن الحكم الفردي و ما يجلبه إلى المجتمع من فسادٍ محتوم و لم تمثّل إلى الآن. شخصيّة أخرى توقّف عندها زحلاوي هي حمزة شكور الذي تعاون معه كثيراً في أمسيات مشتركة بين رابطة المنشدين و جوقة الفرح، الأمسية الأولى أقيمت في أواخر شهر أيلول 2001 في ساحة كنيسة الزيتون بباب شرقي (من أكبر كنائس دمشق القديمة) وقد حضر الأمسية و فدٌ من الترويكا الأوربيّة برئاسة ( خافيير سولانا) كان يزور سوريّة في تلك الفترة التي تغيّر فيها العالم بسبب أحداث نيويورك 11- أيلول، عكست الأمسية جو التسامح الديني الذي تعيشه سوريّة عموماً و كان ذلك ضرورياً في تلك المرحلة ،و نقل زحلاوي عن مراسل التلفزيون البلجيكي الذي غطّى الحدث قوله (كان على السيد بيرلوسكوني بدلاً من أن يشتم الحضارة العربية و العالم الإسلامي أن يأتي إلى هنا ويردم جهله) يذكر أن(بيرلوسكوني) هو رئيس وزراء إيطاليا في تلك الفترة وقد عاد إلى رئاسة وزراء إيطاليا حالياّ.

وعن أهميّة تلك الأمسيات المشتركة مع فرقة حمزة شكور قال الأب زحلاوي (أقمنا العديد من الأمسيات لنبثّ الروح الدمشقية الحقيقية، روح العيش المشترك بين المسيحيين و المسلمين في وجه عالمٍ يصر على أن نتحوّل إلى أعداء لبعضنا البعض)، وتحدّث طويلاً على روح التسامح الديني التي سادت دمشق منذ بداية الفتح الإسلامي بينما كان الغرب يغوص في حروبٍ دينية لا تنتهي وأضاف قائلاً(هناك واقعة القليل يعرفونها: عندما دخل المسلمون إلى دمشق ظلّوا يصلّون في نفس المكان مع المسيحيين في جامع بني أميّة لمدة خمسة وستين عاماً، هذا ما يجب أن يتذكّره العالم دائماً، يجب أن نتذكّر هذه الواقعة و نذكّر العالم بها) وأعلن زحلاوي أنه بصدد إنشاء جوقة مشتركة مع رابطة المنشدين تضم خمسين شخصاً بين منشدٍ و موسيقي و راقص ميلوية ستسمّى (الجوقة الوطنّية المشتركة).

و أخيراً تحدّث الأب زحلاوي عن جوقة الفرح (بدأت الفكرة في مطلع الستينات عندما حضرتُ أمسيةً لجوقة أطفالٍ فرنسية أتت لتغنّي في سينما الزهراء بدمشق، سمعتهم و أُعجبت بهم و قلت في نفسي ما الذي يمنعنا من أن يكون لنا جوقة مماثلة، أطفالنا ليسوا أقل موهبةً أو قدرةً من أطفال فرنسا) وتابع زحلاوي (في عام 1977 م عيّنت كاهناً في كنيسة سيّدة دمشق المطلّة على ساحة العباسيين - حي القصور، قررّت تنفيذ فكرة الجوقة وبدأت ب65 طفل من مدرسة (البيزنسون) كانوا مقيمين إلى جوار الكنيسة ومن كل الطوائف المسيحيّة، أعمار الأطفال بين 4-5 سنوات كانوا يتعلًمون بسرعة والمنافسة بينهم رائعة، و قد حقّقنا نتائج جيّدة في فترة ٍ قياسية،وفي ليلة ميلاد السيد المسيح1977م خدمنّا القداس بالكامل ولفتنا النظر بقوّة إلى أولئك الأطفال) بعد و احدٍ و ثلاثين عاماً من تأسيسهاً وصل تعداد جوقة الفرح إلى الخمسمائة ،والذين كانوا أطفالاً في مرحلة تأسيس الجوقة أصبحوا اليوم يديرون شؤونها بينما يتولى الأب الياس زحلاوي ربطها بالفعاليات الثقافية المحلّية والعالميّة، و في شباط من عام 2009 ستشارك جوقة الفرح في مهرجان العالم العربي بالولايات المتحّدة الذي سيقيمه مركز جون كينيدي بواشنطن.

هكذا انتهى يوم للذاكرة استعاد فيه الأب الياس زحلاوي ملامح من ذاكرة دمشقيّة عتيقة التفّ حولها عشاق نادي الذاكرة و متتبعوه شهرياً، بقي أن نذكّر بانّ الأب زحلاوي: درّس تاريخ المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق في العامين 1978 و1979 . و ترجم لوزارة الثقافة تاريخ الأدب المسرحي بأجزائه الخمسة، و له العديد من المقالات في مجلة الحياة المسرحية حينما كان الراحل سعد الله ونوّس مديراً لتحريرها، وقد اختير عضوا في اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة منذ تأسيسها في شهر أيار 2001م.