بابتسامة مشرقة، وحكمة طبية وإنسانية كبيرة، استطاع الطبيب "فاروق الشلق" أن يعالج القلوب والأمراض، ويداوي الفقراء من دون مقابل، حيث نذر حياته لخدمة الإنسانية، مدركاً المعنى الحقيقي لمهنة الطب، حتى وصلت سمعته الطيبة إلى القاصي والداني.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع ابنته "خولة الشلق" بتاريخ 4 نيسان 2018، وعن حياته تقول: «يعود سبب نجاح والدي، والسمعة الطيبة التي تمتع بها طوال حياته، إلى محبة الناس الشديدة له، حيث أمضى سنوات طويلة من حياته كطبيب يخدم الناس، ولا يرد أحداً ليلاً نهاراً، في أيام العمل والعطل والأعياد، ويقوم بذلك بكل محبة ورحمة، وإظهار الابتسامة، والدعاء للمريض بالشفاء والعافية، من دون تذمر أو انزعاج على الإطلاق، على حساب راحته، ويزور المرضى في بيوتهم، مردداً مقولة: "من قطع رجاء من ارتجاه، قطع الله رجاءه يوم القيامة"، ولم تقتصر خدماته على المرضى، بل حاول أن يخدم زملاءه الأطباء بطريقتين؛ الأولى بتبني بعض الأطباء الجدد ليتدربوا في عيادته ويكتسبوا الخبرة، والثانية بأن يرسل مرضاه الذين يحتاجون إلى أطباء اختصاصيين متخرجين حديثاً ليتعرف الناس إليهم، ويتعالجوا عندهم، كما كان يقدم المساعدة للناس الفقراء، إما عن طريق الإستغناء عن أجرته، أو بتقديم الدواء، أو إعطائهم المال لشرائه، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر».

الأرض تبكي لفقد الصــالحــين فهل تكون تربتها أحن من النسم من للذين على أيدي الطبيب لهم ذكرى لقاء به حـــــظ من النعم عمر قــضاه على اللهفان يسعفه ويستجيب نداء الموجــع الهــرم يا رب أسألك "الفاروق" تكرمه حاشا يضام وأنت البر ذو الكرم

وعن صفاته الإنسانية تكمل قائلة: «تميّز والدي -رحمه الله- بالكلام الطيب الذي لا يخرج من الفم إلا بعد تفكير، ليصبح عنوانه: "الكلمة الطيبة صدقة"، وكان يقابل مرضاه والناس جميعاً بالكلمة الطيبة والابتسامة، ويتحمل أذى بعضهم، وإن أساؤوا إليه، لا يسيء إلى أحد سواء إلى المريض، أو إلى أهله، وعندما كان يشعر بأن المريض يشرف على الموت يودعه عند زيارته في المنزل بدعوة حارة لشفائه. تميز بخلقه الحسن النادر في هذا الزمان، إضافةً إلى احترامه لزملائه الأطباء، وإن حدث وشعر بأنهم أخطؤوا بتشخيص المرض وإعطاء الدواء المناسب، لا يتفوه بأي كلمة تقلل من شأنهم، أو تشعر المريض بتعثرهم، وإذا كان كل ذلك الخير حاضراً أمام الناس، فعلينا أن نتخيل أضعافه نحو أفراد عائلته، على الرغم من الجهد الطويل والساعات الطويلة التي كان يمضيها خارج بيته، ولم يتحمل كل ذلك الجهد وحده، بل تتشاركه والدتي وأسرتنا ككل، ولطالما رن جرس الهاتف ليلاً ، أو قرع الباب طلباً للمساعدة الطبية لأحد المرضى، ومع انشغاله بالعمل، حاول دوماً أن يغمرنا بالحنان والعطف والرعاية، والنصح اللا محدود، ويستثمر يوم عطلته (الجمعة) في صلة أرحامه، كل هذا يشهد به من عرفه وعاصره، وتطبب لديه، وأسأل الله أن يكون قدوة لكل الأطباء في تعامله وخلقه واحترامه لمهنة الطب».

في عيادته

من جهتها "مكية الخطيب الحسني" من معارفه، تقول: «هو شخص عابد زاهد، وهب نفسه لعمله، وسخر مهنته لوجه الله، ونحن نعرفه حق المعرفة، لم يأخذ من الدنيا شيئاً لنفسه، وتشهد بذلك حالته المادية، فقد كانت بيته متواضعاً جداً، وتمتع بشخصية رائعة، وهو أنموذج فريد للأداء المثالي، ووصفه الشيخ "أيمن سويد" بأنه (طبيب الأولياء وولي الأطباء)، وكان يتعامل مع المرضى بكل احترام وصدق، ويقدم لهم النصح إلى جانب علاجه لهم، فإذا كان أحدهم مكتئباً، يوجهه لقراءة القرآن الكريم، ويروي له ما تيسر من الأحاديث النبوية، وعندما يتحدث معه يشعر بطمأنينة وراحة نفسية، ومهما كان متعباً من العمل لا يرفض مريضاً جاء إلى عيادته، وعندما تأتيه حالة إسعافية، يطلب من المرضى في العيادة انتظاره إلى حين عودته ليتابع عمله».

أما "خولة جليلاتي" إحدى المريضات التي تتعالج وأسرتها لديه منذ أربعين عاماً، تروي لنا قصة حدثت معها قائلةً: «في إحدى المرات كانت ابنتي مريضة جداً، وذهبت إليه برفقة والدها في وقت متأخر، لأنه كان من حسن أخلاقه وإخلاصه يتأخر في العمل حتى الانتهاء من معاينة جميع المرضى، وانتظرته حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبعد طول انتظار، فتح أحدهم باب غرفة المعاينة ليجده نائماً على المكتب من شدة التعب والإرهاق، وعندها أخبرتهم السكرتيرة بأنه يعمل عملاً متواصلاً في العيادة منذ الصباح الباكر من دون أن ينال قسطاً من الراحة، وعندها غادر كل المنتظرين من دون معاينة، وأعرف الكثيرين من الناس الذين تطببوا لديه من دون أن يأخذ أجرة المعاينة، ولم يكن يحدد مبلغاً معيناً ولو أعطاه المريض مئة ليرة سورية يأخذها من دون نقاش، وتمتع بقدرة خاصة على معرفة حالة المريض النفسية وكأنه طبيب نفسي، مع أن اختصاصه داخلية وأطفال، ومنذ ما يقارب السنتين كنت أعاني من المرض، وعندما ذهبت إليه، أوقف جميع الأدوية التي كنت أتناولها، واكتفى بإعطائي دواء واحداً، وأرجع سبب مرضي إلى حالتي النفسية آنذاك، لكن من خلال تجربتنا معه كطبيب، أدركنا أنه ملمّ بمعظم الأمراض، وهو صديق والدي، وبيننا زيارات متبادلة، ومهما تكلمنا عنه لن نوفيه حقه، لكن على جميع الأطباء معرفة مسيرة حياته المهنية والإنسانية ليقتدوا به».

في أيامه الأخيرة

من جهته "بشار القضماني" ابن حيّه، يقول: «هو الطبيب الحكيم، الذي يتابع حالة المريض في بيته، وأحياناً كثيرة من دون طلب منه أو من ذويه، يزوره في الصباح الباكر للاطمئنان على حالته، كان ينفق كل ما يكسبه من العيادة لشراء دواء لبعض المرضى الفقراء، لا يطالب المريض بأجر، وإن أعطاه أخذ، وإن لم يعطه لا يسأله، وكان دعاؤه له وإعطاؤه جرعة من البشرى والأمل والتفاؤل شيئاً أساسياً إلى جانب الدواء، إنه يمثل الإنسانية بصدق، ترددت إلى عيادته لعلاج والدي لسنوات، هو جارنا، وتعززت صلتي به بمرض والدي، أذكر مشهداً لن أنساه؛ حيث دخلت عيادته مرة ووجدت في غرفة الانتظار خمسة أشخاص، وانتظرت دوري للدخول ليجدد الدواء لوالدي، وعندما دخلت الممر المؤدي إلى غرفة الكشف، خرج المريض الذي كان في الداخل، فتناول الدكتور "الشلق" الوصفة الطبية التي حضرها مسبقاً، ووضع بداخلها أجرة المعاينة، وأعطاها لمريض منتظر في الخارج وضمنها المبلغ حيث لا يراه أحد، كان يخرج من منزله عند السادسة صباحاً، ويعود عند العاشرة أو الواحدة ليلاً، ولا يرد أي شخص يطرق بابه في أي وقت».

نعاه الشاعر "عبد الفتاح الخطيب" قائلاً:

«الأرض تبكي لفقد الصــالحــين فهل تكون تربتها أحن من النسم

من للذين على أيدي الطبيب لهم ذكرى لقاء به حـــــظ من النعم

عمر قــضاه على اللهفان يسعفه ويستجيب نداء الموجــع الهــرم

يا رب أسألك "الفاروق" تكرمه حاشا يضام وأنت البر ذو الكرم».

الجدير بالذكر، أن الدكتور "فاروق الشلق" من مواليد "دمشق" عام 1938، تخرّج في كلية الطب "جامعة دمشق" عام 1964، أمضى حياته في خدمة الناس وعلاجهم حتى منتصف شهر "آذار" 2017، حتى أصابه المرض وأقعده، ومنعه من العمل، وفارق الحياة في 25 آذار 2018.