صنع عالمه المسرحي بالعشق، واستطاع أن يرسم مستقبله على الخشبة بالكلمة المتفردة البعيدة عن الابتذال، والملأى بالجرأة التي انعكست على حياته كفنان، وأسلوبه الإخراجي الذي امتلكه بالخبرة والعلم. وعلى الرغم من السنوات الطويلة التي قضاها على الخشبة، إلا أنه ما زال حتى اللحظة أسيراً لتلك القشعريرة التي لا تصيب إلا العشاق.

مدونة وطن "eSyria" تدخل عالم الفنان والمخرج المسرحي "أحمد كنعان"، بتاريخ 12 آذار 2018، ليتحدث بصدقه المعتاد عن طفولته، وما تأسس بعدها، فقال: «لعلي أكتشف الآن أن الحديث عن الذات مهمة شبه مستحيلة، وهو كمن يجري عملاً جراحياً لقلبه بيده، يحتاج القلب إلى التخدير كي لا يتألم، واليد إلى اليقظة كي لا تخطئ. حين أتذكر نفسي ذلك الطفل، لا أرغب بتعكير طراوة أحلامه بالحديث عنه؛ أضاع أبي أوراق دخولي للمدرسة، وليته لم يجدها... لعلي أكتشف الآن ـإذا استثنيت الحقائق العلمية الوضعيةـ أنني لم أتعلم سوى الأكاذيب.

التلفاز مجرد تجارة، وكاذب كل من يقول إنه يقدم قناعاته كاملة فيه. القضية هنا عرض وطلب، وأنا أغلب الأوقات أعف عن العرض، لكنني أستجيب للطلب. نادراً جداً ما يقدم التلفزيون عملاً يحترم عقول متابعيه، لكنه يقدم شهرة تجعل العامة يأخذونك على محمل الجد، ويتابعون كل كلامك، وقد تحدث فرقاً في الوعي من خلال هذه الشهرة الزائفة. الجملة السحرية للفنان "فايز قزق" قد تحل لهذا المنحى كله: (أنا أعمل في التلفزيون كي أعيش.. وأعمل في المسرح كي لا أموت)

كنا في "القامشلي"، وهناك يطلقون على الفنانين من عازفين ومغنين وممثلين تسمية لافتة "العشاق"، وكان هؤلاء يتجمعون في حارتنا، يعزفون ويغنون. طرت إلى حلمهم، وعددت نفسي واحداً منهم، لأن موسيقاهم لم تخدش هدوء المدينة، ومن يومها صرت عاشقاً، وما زلت أبذل ما بوسعي كي لا يكون عشقاً من طرف واحد. أذكر أن أول قشعريرة أصابتني عندما كنت أقف قرب أبي وهو يؤدي التحية العسكرية للجنود العراقيين الذاهبين إلى حرب "تشرين"؛ هذه القشعريرة ما زالت تصيبني لحظة الوقوف على المسرح».

من أحد العروض المسرحية تأليفه وإخراجه

كل الذين عرفوه كان يشعل فيهم الحماسة والفكر، وذلك الحب للمسرح الجاد، المملوء بالفن والمتعة، وبقي هذا الشغف رفيق دربه إلى الآن، حيث يقول: «هذا الشغف غامض، وعصي على الفهم. هو ريح تأخذك ولا تتيح لك السؤال عن مصدرها، موج يطّير نفسه حتى ولو لم يبلل سوى الصخر. لو كنت أعرف من أين أتى، لهربت منه، وعشت حياة متوازنة. هو لوثة أو ربما هوس، وهو اندلاع غير مدرج على جدول الأعمال، وبلا مواربة أو مبالغة، لم أستطع يوماً تمييز نفسي عن هذا الشغف، فأنا كشاحنة محملة بالشجن ولديها اتجاه إجباري يقود إلى المسرح. لا أنكر اهتمامي بالشهرة والنجومية، وتلك أحلام مشروعة، لكنها بعد التجارب الأولى صارت ثانوية. كانت المتعة الكبيرة في الاصطدام وجهاً لوجه مع السؤال المغامرة: هل سنحقق دهشة ومتعة، أم سنفشل؟

أما اليوم، وبعد فقدان بعض الإخوة، وعدداً كبيراً من الأصدقاء، وبعد كل الخيبات والخذلان، وبعد أن بدأت خيانات الجسد، وعلى الرغم من الحريق الكبير، ما زلت الفتى الأحمق المصمم على ارتكاب مسرحية، وأعمل عليها بكامل حواسي؛ نعم لم أشفَ بعد من هذا الشغف».

الملصق الإعلاني لأحد أعماله

وعن أعماله المسرحية التي قام بكتابتها وإخراجها، وكيفية حفظ تراثه الغني من الضياع، أضاف: «كتبت "أموات مجانين جداً"، وأخرجتها عام 1996، وكنت قبلها قد قدمت ثلاث مسرحيات، لكن هذه المسرحية كانت بمنزلة الأم، وشعرت بأنني ولدت أخيراً. بعدها كانت مسرحية "الرقص على إيقاع عفريت" التي ترجمت إلى الفرنسية، وقدمت على المسرح بالعربية والفرنسية، وبينهما كانت مسرحية "الشاهد الأخير"، التي لم يكن لها حظ وافر. وقدمت كذلك مسرحية "تماثيل الشمع"، وبعدها قدمت عملاً من نصوص "محمود درويش" الشعرية، وكانت فاتحة لكثير من الأعمال المأخوذة عن نصوص شعرية.

مسرحية "اتفضل إحكي" كانت منعطفاً حقيقياً، وأحدثت جدلاً كبيراً في مهرجان "فوانيس" في "عمان" عام 2004، وترجمت إلى الفرنسية. كتبت بعدها مسرحية "حوار في السرير"، وأيضاً "دمشق 2090"، ولم أجد طريقة لتقديمهما على المسرح، ربما لأنني مازلت مسكوناً بمسرحية "اتفضل إحكي"، وأرغب حالياً بإعادة تقديمها لعلها تخرج مني.

مشهد آخر

وبالنسبة للتوثيق، بطريقة ما سأستطيع تحقيق كتاب عن مروري في هذه الحياة، هذا الهاجس ما زال موجوداً، لكنه مازال مترافقاً مع الضحك القديم. المسرحيات ليست لرفوف المكتبة، فهي تكتب لتشاهد، ولا أحد يستمتع بقراءة مسرحية، لكن يجب أن نحرص على إيصال النصوص إلى الأجيال القادمة، لعل مخرجاً ما يكترث».

وعن حالة الأمل الذي ما يزال يفرض نفسه على المسرحيين بأن يأتي اليوم الذي يشعر فيه المسؤولون عن الثقافة، بأن المسرح هو البداية والمنتهى، والعلاقة مع الجمهور البعيد عن الخشبة، قال: «لم أشعر يوماً بوجود مسؤولين مهتمين، في الثقافة هناك أصحاب مناصب، أو منتفعون، يوجد استثناءات كثيرة، لكنها لم تكن مؤثرة أو فاعلة، وأغلب الأحيان تتم تنحيتها، وكذلك كلمة (جمهور) هي أكبر بكثير مما يحدث هنا، أعرض جمهور لأكبر مسرحية في "سورية" لم يتجاوز الآلاف، وهذا رقم مبالغ فيه، نحن 23 مليون نسمة، ولا يمكن اعتبار الآلاف هؤلاء متخصصين، هذا ليس جمهوراً. بكل الأحوال، أنا أقول: نعم هناك أمل.

هذه الحرب كانت ضرورية، وأهم نتيجة لها هي فضيحتنا الكبيرة كشعب عريق، لكنني أراهن أن الموروث الحضاري الكبير لشعب "سورية" سينتج وعياً قادراً على إعادة القيمة».

وعن توجهه إلى الدراما التلفزيونية، وهل هي حالة من التنفس، أم حاجة مالية، أكد: «التلفاز مجرد تجارة، وكاذب كل من يقول إنه يقدم قناعاته كاملة فيه. القضية هنا عرض وطلب، وأنا أغلب الأوقات أعف عن العرض، لكنني أستجيب للطلب. نادراً جداً ما يقدم التلفزيون عملاً يحترم عقول متابعيه، لكنه يقدم شهرة تجعل العامة يأخذونك على محمل الجد، ويتابعون كل كلامك، وقد تحدث فرقاً في الوعي من خلال هذه الشهرة الزائفة. الجملة السحرية للفنان "فايز قزق" قد تحل لهذا المنحى كله: (أنا أعمل في التلفزيون كي أعيش.. وأعمل في المسرح كي لا أموت)».

وعن تقييمه للمسرح السوري، ونتاجاته الحالية بعد "فواز الساجر"، و"سعد الله ونوس"، و"نضال سيجري"، قال: «فيما يخص نتاج المسرح السوري الحالي، هناك أعمال حقيقة تستحق رفع القبعة، وهناك أيضاً أعمال مفبركة لا يخفى على أحد أنها مجرد (تنفيعة). لا يحق لي الحديث عن تجربة "الساجر"، فأنا لم أتابعه، فقط قرأت عنه، لكني أعوذ بالأجيال الجديدة من وهم التأليه. "سعدالله ونوس" كاتب لا ينتظر شهادتي، ولن تؤثر بمكانته، قرأته بتمعن شديد قبل تكليفه بكتابة كلمة "يوم المسرح العالمي"، لكنني لم أستمتع، ولم أتقاطع سوى مع نص "طقوس الإشارات والتحولات"، قد أكون غبياً، ولا بأس في ذلك. "سيجري" قصة مختلفة، ولا أظن أنه تنفس يوماً نفساً لا يشبهه، عاش قامة كبيرة، ورحل كبيراً، لأنه يعرف جيداً أنه لا يمكن فصل الفنان عن فنه».

الناقد الفني الزميل "علي الحسن" تحدث عن تجربة "كنعان" المسرحية بالقول: «لا أحد يستطيع نكران أهمية ما قدمه المخرج المسرحي "أحمد كنعان" طوال مسيرته التي تتجاوز ربع قرن، وهناك أعمال ما زال صداها حتى اللحظة على الرغم من عمرها الطويل. اعتمد في التأليف على نفسه؛ وهو ما أكسبه إخراج النص مرتين قبل أن يعرضه على المتلقي. ميزته الدائمة في احترام ما يقدم بعيداً عن العرض والطلب، والتفكير الربحي في بيئة ثقافية لا تهتم كثيراً بـ(أبو الفنون)، وانعكاسه على الفن بالمجمل. يحاول منذ احترافه العمل الفني أن يتفرد برؤاه بعيداً عن المادة، وأظن أن اشتغاله في الدراما لكي يحافظ على هذه الميزة التي لا يستطيع الكثيرون التعايش معها».

يذكر أن الفنان "أحمد كنعان" من مواليد "دمشق" عام 1968، درس الفلسفة في جامعة "دمشق".