اعتلى صهوة الشعر منذ الصغر، فكان الفارس الذي أطلق العنان لموهبته وتناول مختلف موضوعات الحياة، ونوّع بإنتاجه الأدبي وتمكن من التحديث في القصيدة العمودية، ورسم صوراً شعرية، ليغني أنشودة الحياة والحب والسلام.

«الأدب عامة والشعر خاصة، واحة يذهب إليها الإنسان ليجلو همّ روحه ويستعيد نقاء نفسه، فالشعر دفقة من الشعور يرتبها العقل وتحملها الموسيقا على جناحيها، فتهبها وزناً وقافية، فتخرج إلينا كلمات رائعة تجلو صفحة النفوس المعتمة وحلكات الليل المدلهمة». بهذه الكلمات بدأ الشاعر "غالب جازية" حديثه لمدونة وطن "eSyria" التي التقته بتاريخ 5 تشرين الثاني 2017، وأكمل: «الشعر كما قيل: (عربة يجرها جوادان رائعان؛ هما العاطفة والخيال، ويقودها حوذي ماهر هو العقل)، ولغاية هذا التاريخ لم يستطع الأدباء التوصل إلى تعريف يحيط بكنه الشعر وجماله. وبالنسبة لي ظهرت موهبة الشعر في المرحلة الابتدائية من خلال حبي وشغفي بإلقاء القصائد، وبدأت تتوضح معالم هذه الموهبة في بداية المرحلة الثانوية عندما بدأنا دراسة أوزان الشعر وبحوره. كتبت في الصف العاشر أول قصيدة لي، وكتبت قصيدة للشهيد نلت عليها جائزة من اتحاد شبيبة الثورة عام 1985. كان للمربي القدير "حسن مروة" مدرس اللغة العربية الفضل في مساعدتي بالتنقيح والتصويب ووضع القطار على السكة الصحيحة، ليصل إلى المحطات المطلوبة بنجاح، لذلك اعتمدت منذ البداية الكتابة العروضية والغوص في بحور الشعر العذبة الممتعة، وكان للمحيط الأسري المثقف دور في التشجيع الأدبي، وكذلك البيئة التي أنتمي إليها؛ فأنا أسكن في بلدة "عين منين"، وهي بلدة ساحرة تجمع ما بين سحر الوادي وعبق الجبل».

الأدب عامة والشعر خاصة، واحة يذهب إليها الإنسان ليجلو همّ روحه ويستعيد نقاء نفسه، فالشعر دفقة من الشعور يرتبها العقل وتحملها الموسيقا على جناحيها، فتهبها وزناً وقافية، فتخرج إلينا كلمات رائعة تجلو صفحة النفوس المعتمة وحلكات الليل المدلهمة

وعن الأنماط التي يبدع فيها والمدارس الشعرية التي ينتمي إليها، أضاف: «الشاعر لا يختار أن يكون شاعراً بمحض إرادته، لكن الشعر هو الذي يختاره، وأحاسيسه وكلماته هي التي تترجم، وفي النهاية هي موهبة ربانية لا تصنع، وإنما تصقل بالدراية والممارسة وكثرة القراءة المتنوعة التي تغني ثقافة الشاعر والأديب. وللشعر مدارس مختلفة، فمنهم لا يعترف إلا ببحور الشعر، ومنهم من يعتمد قصيدة التفعيلة، ومنهم يستسهل شعر النثر علماً أنه الأصعب، وأنا أقف في صف الكلمة الساحرة المدهشة التي تصل بأي طريقة، ولو كنت ميالاً بطبعي إلى الخليل وبحوره؛ لأنها تدل على مدى تمكن الشاعر من أدواته وسكب أحاسيسه بأسلوب انسيابي جميل، لكن موزون وخالٍ من اللغط.

الشاعرة هيلانة عطا الله

لقد قلت الشعر بمختلف ألوانه وأنواعه، وكان الأغزر هو الشعر العمودي، أما شعر "الهايكو"، وهو مصطلح ياباني يعني استخدام ألفاظ بسيطة بأسلوب سهل، ويأتي البيت الواحد مقطعاً لعدة مقاطع حسب رغبة الشاعر، فلم أكتبه إلا فيما ندر. نحن لا نبحث عن أنفسنا بالشعر، ولا نكتبه، إنما الشعر هو الذي يكتبنا ويرسمنا، وما الشاعر إلا قناص اللحظة السحرية التي يبدأ فيها القبض بحرفية على شريط الكلمات الشعرية الذي يتدفق أمامه على حين غرة، وينبع من حصيلة ثقافية ثرية ومتنوعة اختزنها الشاعر من كثرة اطلاعه وقراءته وتجربته ومراسه في كتابة الأفضل دوماً. عندما يمتلك الشاعر أدواته من الموهبة واللغة والموضوع والابتعاد عن التقليد والسحر بنظم عقد اللؤلؤ الشعري، تكتمل مقومات القصيدة الناجحة».

وعن مشاركاته ورأيه بالمسابقات الشعرية، قال: «يا للأسف، تدخل فيها المزاجيات والمحسوبيات والعلاقات الشخصية التي تفرغ الشعر من محتواه، وبرأيي الفيصل يجب أن يكون الجمهور وذائقته السليمة. أما الملتقيات الثقافية، فهي لم تصل إلى مرحلة النضج بعد، لقد شاركت بمسابقات وملتقيات، وفزت بجائزة "كليم النور" كأجمل قصيدة وطنية لقصيدة عنوانها: "سيف الشآم"، وهي إلى رجالنا البواسل في عيدهم الأغر، وهذه بعض الأبيات:

إلقاء قصيدة في إحدى الأمسيات الشعرية

"قُـمْ عـانقِ الفجرَ وانظمْ شعركَ الآنـا... فالأفقُ طلقٌ وسحرُ الشـامِ قد بانا

والصِّيدُ في السّاحِ هَّز الكونَ خطوتُها... والكِبرُ يرسمُ في الهاماتِ عنوانا

هذي الرجالُ إذا ألفيــتَ غضـبتهمْ... خِلتَ الرؤى حمـماً يقـتاتُ نيرانـــا

شمُّ الأنوفِ على البطحاءِ إن وطئوا... ظنَّ العدا في مسـيرِ الزحفِ بركانا

ســيفُ الشــآم ِ إذا لاحـتْ بـوارقـهُ... ردَّ الهبـوبَ على الأعـداءِ أكفانــا"».

وعن وجود الشعر في حياته، استكمل حديثه بالقول: «إن أكثر الأشياء روعة أن يدافع الإنسان عن وطنه بالسيف والقلم في آن واحد، ولي الشرف أن أكون واحداً من حماة هذا الوطن على مدار عقود خلت، بذلت وما زلت مع رفاقي لكي تعود إلى "سورية" شموس العزة وأقمار الكرامة. أجمل لحظة هي لحظة الإدهاش الأدبية، وتكون عندما يتقاطع سنا السيف ببريق القلم، وهنا يكتب تاريخ وطن بحروف من نور، لذلك كتبت:

"لا تسأليني من أنا أو من أكون...

ضاق الكلام فبددي هذي الظنون...

انا شاعر أنا فارس ومغامر إن كنت تهوين الجنون...

انا عاشق للشام بل بغرامها المفتون...

لا، لا تسأليني من أنا أو من أكون..

يكفيك أنك في الفؤاد وفي العيون"».

الشاعرة "هيلانة عطا الله" تحدثت عن شعر "جازية" قائلة: «تنوعت الموضوعات وتعددت الأدوات الفنية في نتاجه، لتشكّلَ معادلاً موضوعياً متصالحاً بين المعنى والمبنى من جهة، وبين المستتر في جوانيات الشاعر والمرئي في تجربته الحياتية؛ وهو ما أعطى للمشهد الشعري السوري قيمةً مضافةً تستحق الوقوف عندها، وفي غمرة الحرب الظالمة على وطنه يتشبث بالمقاومة، وهو الذي نذر نفسه من أجل الوطن، فيطالعنا بقصائد مجلجلة مدادُها من سكبةِ روحه التي تأبى الانكسار. إن القارئ لقصيدة شاعرنا يراها تتألق بالعمود؛ وهو ما يدلُّ على قدرته الفائقة في إلباس المعاني كساءً جميلاً من الأوزان، كما تمكّن من التحديث في القصيدة العمودية حين واءم بين بحور الخليل وبين معطيات العصر الحديث، وفي قصيدة التفعيلة لا يقلُّ شأناً، حيث تنداح الشطرات بين طول وقصر وتدوير، لاحتواء حالاته الشعورية، كما تناول موضوعات حياتية واجتماعية، ومال أحياناً إلى شيء من التصوف بقوله: "مولايَ إني خلوْتُ بذاتي، فوجدْتُ ذنبي قد محا حسناتي، فاغفرْ إلهي هفوتي وتمنّعي، وأرسلْ ضياءَ النورِ في مشكاتي". وعموماً وصلت قصيدة "جازية" إلى المتلقي كانسياب الماء النمير، وأدت الغاية المرجوة لما فيها من جماليات فنية في الصور البيانية التي تشف عبر غلالة أنيقة بعيداً عن الإبهام والغموض، وفي معجمها اللفظي الثرّ والتناص مع الموروث ما يدل على عمق ثقافة الشاعر. هو يحتفي بقصيدته حين يلبسها نشوته أو دهشته أو أشجانه، ويرمي طفله المشاكس في أحضانها حيناً، أو يسكن شيخه الذي أتعبته الحياة في تلابيبها، ويعتصر من كرومها إيقاعاتٍ مسكرة بجرسها الموسيقي لتغني أنشودة الحياة بكلمة، إنها القصيدة الباحثة دوماً عن الحب والجمال والسلام».

يذكر أن "غالب جازية" من مواليد "عين منين" في "ريف دمشق" عام 1968، ماجستير علوم سياسية، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وصدرت له مجموعة من الدواوين: "أبجدية الحب، همسات في أذن المساء، اخترت هواك، الروح الجريحة، أناشيد البراعم، سندسة المدى، أشرعة النور، قلوب أشعلها المطر".