ككل عام، وككل المناسبات العالمية أو الوطنية، ينطلق في اليوم العالمي لحرية الصحافة مارثون المنشورات الخاص بهذه المناسبة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، التي ستكون كما في كل عام منوعة بين من يقدم التهاني، ومن يسخر أو يعترض، وخاصة من قبل الصحفيين أنفسهم.

بدلاً من أساليب الاحتفال تلك، لماذا لا نستغل تلك المناسبة بمناقشة مفهوم حرية الصحافة بحدّ ذاته، وإجراء عملية تقييم للحالة؟ مع العلم أننا كلنا نعلم صحفيون وقادة رأي ومواطنون من مختلف الاختصاصات أنه حتى اليوم لا وجود حقيقياً لحرية الصحافة والنشر في العالم أجمع وليس في "سورية" أو الوطن العربي فقط، ولا يوجد وسيلة إعلامية يستطيع مراسلوها أن يكونوا أحراراً فيما يقدمون للمشاهد أو القارئ أو المستمع.

ولماذا لا نبحث عن جواب يطرح نفسه من منطق الحال، ألا وهو؛ ما السبيل للوصول إلى إعلام حرّ؟

الجواب صعب جداً، والحلّ شبه مستحيل طالما أننا نعيش في عالم متعدد السياسات والديانات والاقتصاد، عالم فيه كيانات لا تتحاور إلا بالحروب والسيطرة، وتستثمر كل موارد الكرة الأرضية للتأثير في الخصم وغسل دماغه، أو إلغائه إن لم يستجب ويستدر، عالم صار سلاحه الأول والأقوى والأكثر تأثيراً هو الإعلام.

ربما يظنّ بعضهم، أن اتساع إمكانية الولوج إلى الفضاء المعرفي، والاطلاع على ما نشاء متى نشاء، حلٌّ لهذه المعضلة، لكن العكس هو الصحيح؛ لأن هذه الإتاحة الأكثر من ضخمة، يسيطر عليها أيضاً، وتصبّ في مصلحة أجندات معينة؛ فمن مصلحة المروّج لأمر ما أن تقرأ أو تسمع أو تشاهد ما يريد إيصاله إليك عبر ألف صحيفة بدلاً من مئة، ومئة قناة تلفزيونية بدلاً من عشر، ومليون موقع إلكتروني بدلاً من ألف.

وعلى اعتبار أن الحل شبه مستحيل، وليس مستحيلاً، لعله من جميل المصادفات، أن جاء مؤتمر: (حق المواطن في الإعلام)، الذي عقد في "دمشق" قبل أيام قليلة من الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها أن من ضمن ما نوقش فيه وما طرح، يستحق -برأيي- أن يكون بداية لصياغة أفكار من شأنها بالفعل تطوير الخطاب الإعلامي الذي نتحدث عن تطويره منذ سنوات، من دون أي خطوات فاعلة حقيقية مختلفة عما قبلها من خطوات أدت إلى ذات النتائج، وفي ذات الوقت للوصول إلى إعلام، فلنقل عنه مقبول، وليس محايداً.

من أهم الأفكار التي طرحت في ذلك المؤتمر، ضرورة محاربة هذا الفلتان الإعلامي الكبير -إن صح التعبير- الذي تسببت به مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة "الفيسبوك" الذي خوّل كل من لديه صفحة زرقاء أن يصير "إعلامياً" له جمهوره الخاص الذي يكاد يقدسه، ويدافع عنه، ويعتمد كلامه وكأنه كتاب سماوي.

محاربة هذا الفلتان تتطلب من الاختصاصيين وأصحاب المهنة الحقيقيين عدم الانكفاء أمام سيل "الصحفيين" الجدد، والاكتفاء بالاكتئاب و"التلطيش" بالكلام عنهم، بينما يتركون لهم الساحة الحقيقية ليكبروا ويزداد جمهورهم، ويتحولون إلى منابر إعلامية تجرّ خلفها مئات الآلاف من المتابعين الذين من الممكن جداً أن يتبنوا أفكار هذا "الإعلامي الجديد" مهما كانت ومهما تغيرت.

وهنا لا بد من تدخل أكبر لا نراه ممكناً إلا من قبل الدولة، وذلك عبر تأمين منابر إعلامية جديدة، تديرها خبرات إعلامية مشهود لها، وما أكثرهم في "سورية"؛ منابر لا تترك حامل الخلوي ومتصفح "الفيسبوك" فريسة سهلة لأي معلومة يتلقاها.

كذلك البدء بنشاطات جديدة بعيدة عن أشكال المؤتمرات التي ننام خلال محاضراتها، ولا يهمنا منها سوى كتابة الخبر الذي كلفتنا بكتابته الوسيلة الإعلامية التي نعمل فيها؛ أي أنشطة وجلسات نقاش حرّ حقيقي نضع فيها أصابعنا على جروحنا من دون خوف أو خجل، ونصل عبرها إلى صناعة وعي عام كفيل بوضع أقلامنا وأقدامنا على الطريق الصحيح؛ فحرية أي شيء، بدايتها وعي.