هو أحد الفنانين المتحررين من سلطة الأكاديمية في الفنون، أغنى المشهد التشكيلي السوري بتجربته الفريدة بتعبيراتها الإنسانية المشغولة بعوالم النفس والصمت والوحدة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 25 تشرين الثاني 2016، التشكيلية "عناية البخاري" زوجة الفنان الراحل "نذير"، وعنه تحدثت بالقول: «في "الجزماتية" بحي "الميدان" الدمشقي أبصرت عيناه النور، توفي والده وهو في الرابعة من عمره فوضعته أمه بملجأ للأيتام، حيث عاش فيه وتابع دراسته، وكان من الطلاب المتفوقين حتى نهاية الثاني الإعدادي، لم يكمل دراسته بسبب سفره إلى "لبنان" سعياً إلى العمل والعيش، وهناك تابع تحصيله العلمي وتخصص بالرسم الهندسي، وعاد إلى بلده في العشرين من عمره ليعمل بإدارة الأشغال العسكرية كرسام هندسي، وخلال طفولته كان من المهتمين بمراسلة الصحف العربية والعالمية، منها الألمانية والصينية، التي كانت تزوده بأعدادها تباعاً، إضافة إلى حبه بمراسلة الشخصيات السياسية، كالرئيس "جمال عبد الناصر" الذي أرسل إليه صورته مختومة بتوقيعه الخاص، كما كان له نشاطه المتميز بكافة الحفلات التي كانت تقام بملجأ الأيتام، ومنها مشاركته العزف على آلة "الفيولانسيل" الموسيقية».

هو صديق العمر، علّم نفسه بنفسه، المهم بتجربته أنه من الفنانين القلائل الذين يعتمدون عند الرسم تقانات خاصة، مثلاً تركيب الألوان. قدم أسلوباً عرف به، وقدرة تعبيرية مميزة في تجربته، أثّر في حياة الكثيرين من التشكيليين الذين يحملون الشهادات العليا، ويتّضح هذا في تجاربهم، قدمت تجربته المحلية حلولاً تشكيلية مهمة

وتتابع: «في الستينيات وخلال وجوده في "لبنان" ولمدة سبع سنوات أتيح له الإطلاع على النشاط التشكيلي الذي يحبه، حيث بدأت علاقته المبكرة مع اللون الذي صنع سحره في نفسه من خلال مراقبته تحليل اللون، بوضعه خيوط الصوف بكأس الماء وزيارته مشغل خاله لصناعة البسط، كل ذلك كوّن فسحة سحرية لاكتشاف قيمة الخطوط والألوان التي أبدعها بلوحاته الشعبية، لم يلتحق بأي مدرسة أكاديمية لتعلم الفنّ، بل اكتفى بالمرور بمركز الفنون التطبيقية ليدرس الطباعة على القماش، وكان للقائه بالتشكيلي الراحل "فاتح المدرس" دور بدفعه باتجاه احتراف الرسم من خلال ملاحظاته وتوجيهاته وخطط عمله وإرشاده إلى مركز الفنون التطبيقية ومتابعة دروس الرسم، ثم التحاقه بمعهد "أدهم إسماعيل"، وتردده إلى جمعية "أصدقاء الفن" التي أقام فيها أول معرض له وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وفيها تعرف إلى مجموعة من الفنانين السوريين، وكانت مكاناً لتبادل الخبرات من خلال ورشات العمل والحوار، لم يتأثر بمدرسة فنية، وإنما كان له عمله الخاص، صنع ريشته وألوانه بنفسه، وكان له في المركز البصري للفنون التطبيقية محاولة لتدريس فكره الفني ونقله للطلاب، وكانت هذه تجربته الوحيدة في مجال التعليم».

وجوه على الخشب

وتضيف عن أهم ما ميز تجربته الفنية والموضوع الأساسي برسوماته قائلة: «كان يحب الصحف أو أي شيء ورقي؛ فالورقة شيء مقدس عنده، ولرسوماته أدوات خاصة؛ فهو يستعمل "السكر، والكلور، والشامبو"، كلها قدمت خصوصية لعمله الذي لا يستطيع أحد غيره إنجازه بالدقة التي كان يعمل بها؛ فاللوحة بالنسبة له هي حياته، كان إنساناً متصالحاً مع ذاته، متوافقاً مع لوحته من ناحية البساطة والعفوية والاختزال، يرسم ليرضي روحه معبراً عن الأشخاص الذين ينتمي إليهم في ألمهم وأملهم وحلمهم.

كانت الوجوه موضوعه الأساسي، حيث أدخل إليها "التهشير الهندسي" أو الخطوط الهندسية، ثم انتقل بعدها إلى مرحلة رسم الطيور والحيوانات والمناظر الطبيعية، وقد احتلت جبال "معلولا" وصخورها وبيوتها حيزاً خاصاً في أعماله، حيث كان يقيم فيها سنوياً لمدة خمسة عشر يوماً ممارساً طقوسه الخاصة في الرسم وإبداعه الفني، إضافة إلى خصوصية طابعه برسم الطبيعة الصامتة "المزهريات والأوراق الخاصة" التي تميز بها، وفي المدة الأخيرة لم يعد يرسم إلا الوجوه، حيث تركت مرحلة طفولته بدار الأيتام أثرها الأكبر في حياته من خلال رسمه الوجوه الحزينة بلوحاته، وقد حاول من خلال هذه الوجوه أن يعبر عن حالة الحزن التي عاشها، وكانت أغلب وجوهه بلا أعين أو فم أو أنف، وقد قال في أحد لقاءاته عن موضوع الوجوه: (الوجه الموضوع الأساسي في فني، وربما يعود اهتمامي بالوجوه إلى أنني لم أعرف أبي إلا من خلال صورة له، ولأنني عشت يتيماً؛ فتراكم المشاعر جعلني أتوجه إلى رسم الوجوه الصامتة من دون تحديد ما إذا كانت رجلاً أم إمرأة)، كان يمارس الرسم بداية بمنزله في "الزاهرة"، ثم انتقل إلى مرسمه بـ"دمر"، وبعدها انتقل إلى مرسمه بـ"دمشق" القديمة التي عشقها، وكان يرى في كل وجه يطالعه رؤية جديدة لوجوه لوحاته».

وجوه

وعن رأيه بالملتقيات الفنية ودورها بحياة الشباب، تقول: «كان من المشجعين للشباب وفنهم من خلال إقامة جائزة "نذير إسماعيل" للشباب السنوية، وفي أحد لقاءاته عبر عن رأيه بالملتقيات الفنية ودورها بحياة الشباب قائلاً: «تكمن أهمية الملتقيات بإتاحة الفرصة للمشاركين بالحوار فيما بينهم، واللقاء والتعارف يكرّس الألفة ويكسر الحواجز بينهم، كما تحرّض حسّ العمل عندهم والاستفادة من تجارب بعضهم في سبيل النهوض بالفن والعودة إلى الحياة الطبيعية للمجتمع والحركة التشكيلية. أما جيل الشباب، فمازال يعتمد خبرة التشكيليين القدماء لرسم خطوط عملهم المستقبلية».

وتختتم حديثها بالقول: «كان منتجاً لآخر لحظة من عمره، وأستاذاً بكل معنى الكلمة، محباً، عصامياً، هو الحكيم والمستمع، كان يحب "الأنتيك" ويقتنيه، كما كان يحب الجلوس مع أصدقائه، ويمارس معهم لعبة النرد، تمنى أن يتزوج من إنسانة ناجحة، وأن يكوّن أسرة متميزة؛ وهذا ما كان له من خلال أولاده: "مهند، مهران، سامي، سالي، وتالا"، كنت له شريكة عمر ساعدته ليعمل، ويصل في مشواره الفني إلى ما وصل إليه من نجاح».

التشكيلية عناية بخاري

عنه قال التشكيلي "أنور الرحبي": «يعدّ حاضرة بصرية تكاد تكون عنواناً للكثير من الوجوه المتعبة في حياتنا اليومية، استطاع من خلال ألوانه أن يمعّن بأن يكون اللون شفافاً حاضراً أثناء النظر إليه من خلال المتلقي حين يركز ألوانه بخاصية ذاتية، كان يقول لي دائماً: أنا لست رساماً، أنا أعرف كيف أصنع لوحة؛ من هذا القول نستخلص أنه استطاع أن يحقق مساحة موضوعية على صعيد الإنسان من خلال تجاربه الشخصية، ومن خلال جملة ما فهمه من الذاكرة الملونة التي أضافت إلى المتلقي شيئين مهمين؛ أولهما كيف يقدم هذه الوجوه، وكيف يتلقاها، فأحسن تلك المعادلة بكثير من الحب والعشق لفن التصوير، يبقى الراحل قيمة فنية رائعة نقف عندها ونستخلص منها ونمعن في كثير مما حققه خلال حياته الإبداعية، سيبقى في خارطة التشكيل السوري رقماً صعباً ستقرأه الأجيال القادمة».

وأضاف التشكيلي "محمد غنوم": «هو صديق العمر، علّم نفسه بنفسه، المهم بتجربته أنه من الفنانين القلائل الذين يعتمدون عند الرسم تقانات خاصة، مثلاً تركيب الألوان. قدم أسلوباً عرف به، وقدرة تعبيرية مميزة في تجربته، أثّر في حياة الكثيرين من التشكيليين الذين يحملون الشهادات العليا، ويتّضح هذا في تجاربهم، قدمت تجربته المحلية حلولاً تشكيلية مهمة».

يذكر أن التشكيلي الراحل "نذير إسماعيل" من مواليد "دمشق"، 17 شباط 1948، أقام نحو اثنين وستين معرضاً في المحافظات السورية والدول العربية والأجنبية، إضافة إلى مشاركته بمئات المعارض الجماعية حول العالم، نال العديد من التقديرات، منها: الجائزة الثالثة بمعرض الشباب، "دمشق" 1971، جائزة "إنتراغرافيك"، برلين 1980، والجائزة الثالثة "بيبينالي الشارقة" 1996، وتوفي بتاريخ 12 تشرين الأول 2016.