من أشهرِ أسواق "دمشقَ" وأهمِّها، وصفَه المؤرخون بأنه فسيحٌ رائع البناء، ودرّةُ أسواق المشرق وأكثرُها جمالاً ورونقاً، بني أيام الاحتلال العثماني، وكان يطلق عليه الدمشقيون "المدينة".

يقع في الجهة الغربية من "دمشق القديمة" داخل السور، ويمتد من نهاية شارع "النصر" إلى فسحة "المسجد الأموي" الخارجية. بُني هذا السوق بدلاً من "سوق الأروام" فوق الخندق الجنوبي لقلعة "دمشق" من الغرب إلى الشرق، بين "باب النصر" و"باب البريد".

امتاز السوق سابقاً بدمشقية تجّاره ونظافته، وكثرة صنابير المياه في أرجائه، وأذكر أن عاملاً يحمل قربة جلدية فيها ماء كان يرشّ أرضيته صيفاً حفاظاً على اعتدال جوّه، ليأتي بعد الظهر سكان "دمشق" لانتقاء لوازمهم

‎مدونة وطن "eSyria" كانت في "سوق الحميدية" بتاريخ 22 آب 2016، والتقت التاجر "حسان اللحام"، الذي قال: «عائلتي موجودة في هذا السوق منذ مئة عام ونيّف، عمل الأجداد في تجارة السجّاد اليدوي، وتوارث الأبناء والأحفاد المهنة، وأغلب محال السوق موروثة، يعمل فيها أفرادٌ لأسرٍ معروفة، اشتهر السوق ببيع الأقمشة الحريرية الدمشقية بألوانها السبعة، والأقمشة الصوفية "الجوخ"، وكذلك الملبوسات القطنية الدمشقية الشهيرة، ومنها ملابس الحجّ، و"الكله" "الناموسية" التي كانت تستعمل في كل البيوت الدمشقية، كذلك أعي تماماً وجود محال لبيع الأحذية الجلدية "الوردلة" المصنَّعة يدوياً، وقد وُجِد مصنع قديم للزجاج الملوَّن في آخره، يجاوره "سوق الورّاقين"، ومحال عدة لبيع المسك والعطور، إضافة إلى عدد من المحال لبيع أدوات التسلية، مثل "طاولات الزهر، والبرجيس، والأراكيل ومعداتها"».

السوق من الخارج

أما "أبو شادي الشالاتي"، فقد بدأ العمل في سوق "الحميدية" بسنّ الثامنة، كَبُر فيه وأتقن حرفة البيع وامتلك اليوم محلّاً للشرقيات، حيث يقول: «امتاز السوق سابقاً بدمشقية تجّاره ونظافته، وكثرة صنابير المياه في أرجائه، وأذكر أن عاملاً يحمل قربة جلدية فيها ماء كان يرشّ أرضيته صيفاً حفاظاً على اعتدال جوّه، ليأتي بعد الظهر سكان "دمشق" لانتقاء لوازمهم».

أما التاجر "نزار اسماعيل عبد القادر زيدان"، فقال: «تعاقبت أجيال على مصلحة بيع السجاد والتحف، وأذكُر وجود "دلّالة" مختصين يعرضون السجاد المراد بيعه على تجار السوق ويبيعونه بأنسب سعر لمصلحة البائع، منهم والد الفنان "ياسين بقوش" الذي اشتهر بأمانته، عُرف هذا بالمزاد المتنقّل، كذلك كان هنالك مزاد ثابت يأتي إليه الباعة من "دمشق" وريفها. كان والد جدي يفتح المحل باكراً جداً لبيع السجاد والأثاث والتحف للقادمين من "ريف دمشق"، فلم يكن الشاري يأتي منفرداً، بل جرَت العادة أن يكون ضمن مجموعة تزيد على الثلاثين شخصاً لانتقاء جهاز العروس الذي يضمّ قطعة من السجاد الفاخر، وتحفة قديمة كـ"الزبادي الصيني"».

الزي الشعبي

‎وكان لنا لقاء مع "سلطان السبيني"، الذي قال: «أعمل في محلّ للشرقيات منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي من أهم الحرف التي يُقبِل زوار السوق على شرائها، وعليه يُعدّ "سوق الحميدية" الشريان الرئيس للعاصمة، عُرف قديماً بـ"المدينة"؛ نظراً إلى اختلاف وتنوّع بضائعه.

وقد أورد مؤرّخ "دمشق" وابنها "عماد الأرمشي" في سيرته الذاتية؛ أن والدته كانت تصحبه إلى "المدينة"، لشراء ما يلزم».

نزار زيدان

وفي لقاء مع "صبحية البديوي الكيلاني" التي روت أنها كانت تذهب منذ صغرها مع والدتها إلى "المدينة"، وكان الذهاب مُفرحاً بالنسبة لها، حيث كان السوق مقصداً لزائري "دمشق" من الأجانب المبهورين بما يضجّ به من أضواءٍ وبضائع متنوعة. وتابعت: «من أهمّ المحال التجارية اللافتة في فترة الخمسينيات من القرن المنصرم محلّ "المحايري" للأقمشة، ومحل "الزين" للألبسة الجاهزة والأقمشة، مع وجود محال عدة تؤمِّن لزواره الحلويات والمرطبات و"البوظة" مثل "بكداش"، كذلك مرت مظاهرات الاحتجاج ضد الاحتلال عبر سوق "الحميدية" لتجتمع عند الساحة الخارجية لـ"الجامع الأموي" وسط "ساحة المسكية"، أما في حالة الإضراب وعندما تزداد الأمور سوءاً، فكان تجّاره يغلقون المحال، ويصبح معبراً للثوار؛ وهو ما كان يؤدي إلى ملاحقة السلطات الفرنسية للثوار وتبادل إطلاق النار فيما بينهم؛ وهذا أدّى إلى إحداث الثقوب في سقف التوتياء».

أمّا سبب تسميته بـ"سوق الحميدية"، فهو لوجود "الخانقاه" أو "المدرسة الأحمدية" فيه، التي كانت في موقع جامع الحميدية اليوم، كما أُطلق اسم "العصرونية" و"الخضيرية" و"الشركسية " و"الدلامية" وغيرها على تلك الأحياء من "دمشق"، بسبب وقوع تلك المدارس فيها. وقد جُددت محال هذا السوق في هذه الأيام سنة 1409هـ، 1988م، وعلقت في سقفه أشكالاً تشبه الثريات. أما في عام 2000م، فقد أظهروا الأعمدة الأثرية البازلتية القديمة إلى خارج المحال، لأهميتها الأثرية.

وذَكر التاجر "آكوب ميكائيليان" 1903م-1967م، وهو من أرمن "دمشق" في مذكراته الخاصة، أنه أتى إلى الشام وتعلَّم الخياطة عند "بشارة موصللي" بسوق "البورص" بالعصرونية، وفيما بعد أتقن الحرفة وافتتح أول محل للخياطة بأول سوق "الحميدية"، ونظراً إلى مهارته كان يتعامل معه الوزراء ورؤساء الجمهورية وأعيان "دمشق"، وأنه أول من وضع الواجهة الزجاجية على محله؛ فقد اكتفى التجار سابقاً بإغلاق المحال بالغلق الحديدي عند انتهاء الدوام، أو كانوا يضعون ستارة من القماش عند ذهابهم لأداء فريضة الصلاة، وفيما بعد انتشرت ظاهرة الواجهة الزجاجية لتُغطي محال سوق "الحميدية" بالكامل.

كما كان سكان المناطق المجاورة يرتادون سوق "الحميدية" بالأعياد، حيث تُباع المرطبات والمثلجات وحلل الفول و"البليلة"، وغزل البنات، وحبات التفاح الصغيرة التي تُباع كحلوى، فتُغرس بعود وتُغطى بالسكر الأحمر.

وكان المصوّر يقف عند "باب النصر" مع آلة التصوير الشمسي الموضوعة ضمن صندوق مغطى بقماش أسود، ويلتقط الصورة بالأبيض والأسود، وله دُرج يتم تحميض الصورة فيه وتجفيفها تحت أشعة الشمس مباشرةً، ويجلس من يريد أخذ الصورة الشمسية على كرسي، وكان أكثر المصوّرين أرمن.

أما في عيد المولد النبوي الشريف، فقد كان السوق يزيَّن بأكمله بالأعلام الصغيرة التي تحمل لفظ الجلالة.

يعدّ من أهم أسواق الشرق على الإطلاق، فهو مدينة تجارية صناعية وسط "دمشق القديمة"، كما أنه مغطى بالكامل بسقف حديدي مملوء بالثقوب الصغيرة التي تنفذ منها أشعة الشمس أثناء النهار، وبُلِّطت أرضيته بالحجر البازلتي الأسود، كما يُعدّ ملتقى للزائرين والسيّاح من كافة بقاع الدنيا.

وفي وصف للمؤرّخ الدمشقي "أكرم العلبي" للسوق، قال: «يضاهي سوق "الحميدية" بجماله وتألّقه سوق "الموسكي" الشهير في "القاهرة"، حيث تُباع فيه كافة أنواع البضائع من كل صنف ولون، وأهمّها الصناعات التراثية، مثل: المصنوعات النحاسية، والأرابيسك، والمصدفات، والأقمشة بكافة أنواعها الحريرية والقطنية، والمطرزات، وكافة أنواع الملابس الجاهزة، وأدوات الزينة، والأحذية، والديباج، والمفروشات، والسجاد، والذهب، والتحف، والهدايا التراثية».