أهم إنجاز حمى الإنسان من غوائل الجوع، وما زال يحميه، كان التوقف عن حصاد القمح البري ثم زراعته وتهجينه، وتحويل هذه الزراعة إلى مصدر تغذية أساسي، وكانت المرأة السورية صاحبة هذا المجد.

في حقبة الألف العاشرة قبل الميلاد، كان القمح والشعير البريان ينموان بكثافة في مناطق "سورية"، ولا بد أن قيمتهما الغذائية عرفت قبل ذلك بكثير؛ بدليل وجود أدوات حجرية لحصادهما كما اكتشف في موقع "النطوف"، لكن متى بدأت زراعة القمح فعلاً؟ ومن قام بذلك؟

جسد الفنان السوري هذه العملية عبر تجسيم الآلهة الأم؛ بالتركيز على مواضع الخصب لديها وتكبيرها بشكل غير طبيعي كما في لقى تل "المريبط وأوغاريت" وغيرها، للدلالة على عملية الخلق والخصب والولادة وتجدد الفصول، وعلى ضوء التحاليل الأثرية لعبت المرأة دوراً طقسياً في الزراعة يعد دوراً رئيساً، معظم لوحات موقع "حالولا" تضم هذه الرموز ورمز ظهور النباتات المستزرعة في المشرق العربي

الباحث الأثري "بسام جاموس" مدير مشروع مجلد "تاريخ الساحل السوري منذ مليون عام"، ومدير الآثار السورية السابق في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 31 أيار 2015، يقول: «إن الأدلة على أن المرأة السورية هي المخترعة لأول النماذج الإنتاجية في العالم موجودة في اللقى الأثرية التي اكتشفت في عدة مناطق سورية ومنها "ستمرخو" في ريف "اللاذقية" وحوض "دمشق"، و"أوغاريت"، و"حالولا"، ومملكة "قطنا"، وتل "البيدر"، ومن أهمها قرى الفرات الأوسط في تل "المريبط"، ومنها انطلقت إلى بقاع العالم الأخرى وصولاً إلى اكتشاف القمح القاسي حوالي القرن السادس الميلادي، وقد انطلقت زراعتها من بلاد الشام ثم انتشرت إلى بقية أنحاء العالم في حقب لاحقة».

من مسماريات أوغاريت

أول وأهم هذه النماذج زراعة الحنطة، يقول الباحث: «في منتصف الألف السادس ظهرت المجتمعات الزراعية، بعد أن اكتشفت الزراعة وتخلت عن الالتقاط والصيد، واخترعت الفخار الذي اتسع استخدامه كثيراً، وعبر دراساتنا الأثنوجرافية أثناء عملنا في هذه القرى الأثرية مثل تل "المريبط" تبين لنا أن النساء كنّ يخرجن من الصباح قبل شروق الشمس إلى الحقول لزراعة الحنطة، بينما يجلس الرجال في المنازل، ويتجسد النشاط الاجتماعي للمرأة بوجود نقوش لنساء يرقصن على أرضيات المنازل التي تم العثور عليها في تلك المواقع، وهو فعل مشابه لزراعة الحنطة».

يتابع الباحث قوله: «جسد الفنان السوري هذه العملية عبر تجسيم الآلهة الأم؛ بالتركيز على مواضع الخصب لديها وتكبيرها بشكل غير طبيعي كما في لقى تل "المريبط وأوغاريت" وغيرها، للدلالة على عملية الخلق والخصب والولادة وتجدد الفصول، وعلى ضوء التحاليل الأثرية لعبت المرأة دوراً طقسياً في الزراعة يعد دوراً رئيساً، معظم لوحات موقع "حالولا" تضم هذه الرموز ورمز ظهور النباتات المستزرعة في المشرق العربي».

فؤوس من العصر الحجري

وقد وجد العلماء بقايا حبوب قمح مزروعة عند موقع قرية "جارما" في ريف "دمشق" كما وجدت "معزقات" من العظام ومناجل من الصوان، أما في منطقة "ستمرخو" في "اللاذقية"، فقد وجدت أدوات حجرية متمثلة في المناجل والفؤوس الحجرية مع بقايا حنطة.

مع الانتقال التدريجي إلى ثقافة المدن مع ظهور مملكة "ماري وإيبلا" تطور دور المرأة كمنتج اقتصادي رئيس، وقد أعطت الألواح المسمارية توضيحات إضافية تظهر في الأغاني الموجهة للمرأة كحاملة للخصب، ومنها مثلاً في "أوغاريت" تمثال الربة الحامية وهي تمسك بيديها حزمتي قمح، كما يقول الباحث "جاموس".

فؤوس معدنية

يذكر "جاك كوفان" في كتابه "القرى الزراعية الأولى في بلاد الشام" (ترجمة سلطان المحيسن)، أن "زراعة القمح من قبل النساء استتبعها ظهور الأدوات التي يحتاج إليها للدرس والتجفيف ثم الطحن"، ويلحظ الباحث وجود أدوات مثل المعاول الحجرية، وهي "صنف من الفؤوس ذات وجهين تستخدم في الحصاد"، وقد بقي جزء من هذه الأدوات كالمناجل التي تطورت من حجرية إلى حديدية حتى وقت قريب مستخدمة في حصاد قمح حقول الجبال الساحلية.

لقد كان النتاج الاجتماعي الأهم لما فعلته المرأة هو الاستقرار الإنساني في تلك القرى، و"البدء بتأسيس المستوطنات البشرية الأولى وما عنى ذلك من ظهور العائلة الواحدة والمجتمع المصغر منطلقاً إلى تأسيس المدن والدول، وهي تلك التي شهدتها حضارة السهول هذه من وادي الرافدين إلى ساحل المتوسط ومصر، وهذه نفسها شهدت ظهور ملكات عظيمات وسيدات أعمال حقيقيات يتاجرن ويعملن في كل المجالات ومنها الزراعة نفسها".

كذلك يذكر الباحث "فراس السواح" في كتابه "لغز عشتار" أن العبادة الطقسية للمرأة زارعة الحنطة، تتجلى في طقوس الحصاد التي تقوم بها المرأة مبتدئة الحصاد بصورة رمزية بعد تطور المجتمعات باتجاه عمل الرجل في هذا المجال، ومن هذه الطقوس ما بقي حياً في ذاكرة شعوب المنطقة المشرقية حتى اليوم.

مراجع:

1- نمطية أدوات العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط، فرانسوا بورد، ت: د.خالد أبو غنيمة، و د. بسام جاموس ـ الهيئة العامة للكتاب ـ دمشق 2009.

2- لغز عشتار، فراس السواح، دار علاء الدين، الطبعة العاشرة، دمشق، 1995.