حدسُه الداخلي حمله لتعلم فنّ الطهو بعمر صغير، فتعرّف إلى وصفة الساحر الباردة والساخنة، وأتقن النكهة وغيّر الملامح العامة متمكناً من إعادة الأكلات التقليدية إلى الواجهة لتناسب العصر بأبسط شكل وأجمل تكوين، فارتقى بسمعة المطبخ السوري في الدول العربية والأوروبية.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 4 شباط 2018، مع الشيف التنفيذي ومدير عمليات إدارة المطابخ العالمية والمحلية "محمد ظاظا"، ليحدثنا عن خبرة 30 عاماً جال خلالها في 15 بلداً حول العالم؛ رغبة بإتقان فن الطهو واكتساب خبرات جديدة، والبداية من بلده "سورية"، وعنها قال: «بعمر 14 عاماً قررت تعلم فن الطهو تأثراً بأحد الأقارب. الالتحاق بالعمل وترك المدرسة وضعني أمام تحدٍّ؛ إذ لم يكن يسيراً على أسرة ترى أن العلم هو طوق النجاة الوحيد لمن يرغب بالعيش عيشة كريمة، أن تسمح لأحد أفرادها بترك المدرسة.

أن يكون جاداً في التعلم ومجتهداً وصبوراً، ويمتلك الخبرة بمعرفه أذواق الناس، والمفضل في هذه المهنة حاسة الذوق الخاصة، والبيت هو الأساس في تعلّم النكهات الأساسية. هي مهنة تحتاج إلى ثقافة عالية بمجال الغذاء، والشيف الجيد يسأل عنه زبائنه ويطلبونه بالاسم مثل الطبيب المشهور، وطموحاتي أن نصل بسمعه الشيف السوري من حيث مهارة الصنع والجودة والطعم إلى جميع أنحاء العالم، فالمطبخ السوري أيقونة بتنوع أطباقه

في عام 1988، التحقت بالعمل كعامل عادي في المطبخ بمجمع "صحارى" السياحي، واحتكاكي المباشر مع أفضل الطهاة خبرة مهّد لإتقاني الأساسيات بفن الطهو. دخلت قسم المطبخ البارد، وتعرفت طريقة تقديم وعمل وتزيين "السلطات" الشرقية والغربية، وأموراً أخرى، ثم انتقلت إلى القسم الساخن لتحضير الوجبات الشرقية والغربية والمقبلات الساخنة، وشعرت بأنني أعيش رحلة ممتعة مستمتعاً بكل تقنية أتعلمها، وبعدها تعلمت طريقة تحضير اللحوم وتقطيعها والخلطات المناسبة لها. تميزت بسرعة التعلم والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، لتأتي مرحلة تعلّم صنع الحلويات الشرقية التي أتقنتها أيضاً، وأنهيت رحلة التعلم بعمر 16 عاماً بتعلمي لجميع الأقسام وتعرّفي إلى وصفة الساحر؛ فالطهو ليس رياضيات، وإنما سحر وفن، ولم أفضّل قسماً على آخر».

الشيف محمد ظاظا

حدسه الذي حمله لتعلم فن الطهو عزّز من ثقته بنفسه، ودفعه إلى تحمّل ضغط العمل بعمر صغير، واستكمل قائلاً: «تلقيت عرضاً للعمل بمدينة "ديرالزور" في شركة نفط كشيف مطبخ، وكان تحدّياً بالنسبة لي؛ فالتجربة الأولى تكون الأصعب دائماً لشاب بهذا العمر، وهي بوابة العبور لتقطف ثمرة تعبك، التي تكللت بالنجاح. أتيحت لي بعد سنة فرصة أكبر؛ إذ انتقلت للعمل في أحد المطاعم المعروفة بمدينة "مرسين" التركية كـ"شيف شاورما" ومشروبات ومعجنات، وأتقنت طهو الأكلات التراثية التركية وطريقة التقديم الخاصة بهم، ثم انتقلت للعمل بأحد فنادق "بلغاريا" بمطبخ الأكلات العربية، وكانت رحلة جميلة اكتسبت خلالها خبرة وتعرّفت فنوناً مختلفة بمجال الطهو، وتركت انطباعاً جميلاً لدى زبائن المطعم، وعملت لعام ونصف العام لأعود بعدها إلى "سورية"».

التنقل والسفر جزء أساسي للتميز بالعمل واكتساب خبرات جديدة؛ فهو بمنزلة دم جديد يضاف إلى الشيف، والخبرة العملية أهلته للعمل في أفخم المطاعم وإيصال فن وتميز الأكل السوري، فعراقتنا بهذا المجال سبقت الطهاة. وعن مرحلة البساط السحري لفوزه بالكثير من المسابقات، قال: «المسابقات مكّنتني من العمل في أفخم المطاعم والفنادق، فكانت البساط السحري لتنقلي والتعرف إلى ثقافات البلاد الأخرى بفن الطهو، ونقل عراقة المطبخ السوري. لقد اجتزت مسابقة واختباراً عملياً للعمل في "الدوحة" عام 1994 برتبة رئيس القسم الساخن، وتكمن أهمية العمل في الفنادق بالقيام بدورات تدريبية لإدارة المطبخ، وكيفية الحفاظ على أمن وسلامة الغذاء، والاهتمام بالتنظيم، وتعلم اللغة الإنكليزية، لتنتهي الرحلة بعد عام كامل مملوءة بالإنجازات والخبرة. المحطة اللاحقة عام 1995، حيث دُعيت للمشاركة بمهرجان للمأكولات السورية في "مصر"، واخترت كأصغر مساعد شيف تنفيذي على مستوى الجمهورية، وبعد النجاح المبهر للمهرجان، عُرض عليّ العمل في فندق "البارون" في "القاهرة"، الذي يعدّ من أهم فنادق الدرجة الأولى، وبعد عام عُدت إلى البلد للعمل، حيث شهد نهضة سياحية، وشاركت بافتتاح مطعم في "الشام القديمة" مختص بالأكل الفرنسي التقليدي. عام 1997، أجريت مسابقة لاختيار "شيفية" للعمل بأكبر وأهم فنادق بالعالم لمصلحة إماراة "أبو ظبي" وكنت من الأوائل المختارين، ثم انتقلت للعمل في "مكة" بعد أن اجتزت مسابقة كشيف تنفيذي بفندق خمس نجوم، والتجربة كانت عظيمة وممتعة، فالزوار حجاج ومعتمرون من بلدان مختلفة وجنسيات متعددة، وبعد عام ونصف العام عُدت إلى محطتي الأساسية بلدي "سورية"؛ إذ عملت بإدارة مجمع سياحي يتسع لـ1500 شخص، وبعد سنتين حققت إنجازاً في بلدي؛ إذ قمنا بتأسيس أكبر مطعم في العالم "بوابة دمشق"، ويتسع لـ6750 شخصاً، ودخل موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، ثم شاركت بتأسيس أكبر مطعم بمدينة "حلب" "بوابة الشهباء"، ويتسع لـ2500 شخص، وشاركت بتأسيس وافتتاح مطعم "القرية الفرعونية" في "ريف دمشق"، الذي أخذ طابعاً جديداً ومختلفاً من حيث البناء والمناظر الطبيعية وطريقة تقديم وتحضير الطعام، وبعد أن عشت في بلدي مرحلة سياحية ذهبية، وشاركت بإدارة عدد من المطاعم العريقة شعرت بالحنين إلى السفر. تلقيت عرض عمل لافتتاح أكبر مطعم للمأكولات السورية التقليدية في "الدوحة"، وكان مقصداً لجميع الجنسيات العربية والأجنبية، وعملت في مدينة "غانا" بفندق (خمسة نجوم) لمدة سنة كاملة، وكانت تجربة فريدة وغنية. بعد سنتين اجتزت مسابقة لشركة تمتلك 54 مطعماً وموقعاً سياحياً داخل "قطر" برتبة شيف تنفيذي مسؤول عن إدارة وتشغيل المطبخ لتلبية احتياجات الفندق أو المطعم، وكانت تعدّ مرحلة مميزة في مسيرتي المهنية، وهي قيادة مجموعة كبيرة من المطاعم المتعددة الجنسيات».

من صنعه

بعد رحلة ممتعة قضاها "ظاظا" متنقلاً بين 15 بلداً عربياً وأجنبياً، تسلم فيها إدارة منشأة سياحية بكاملها، قال: «أتقنت الطبخ "الشرقي والفرنسي والإيطالي والتركي والهندي والخليجي"، ونقلنا المطبخ الغربي إلى مجتمعنا بعد أن عدّلنا ببعض المواد الغذائية لتتناسب وقيم مجتمعنا، فجيل الشباب الحالي يهتم بالشكل وطريقة التقديم الفريدة والغريبة؛ إذ يفضل الوجبات الخفيفة، وأجدت طهو الأطباق التقليدية مع المحافظة على النكهة لتناسب التطور في عالم الطهو الواسع والمتجدد، وأتقنت صناعة الحلويات التي تستخدم فيها أنواع القشطة وأضفت إليها نكهات جديده بإخراج جميل».

وبعد هذه التجربة الفريدة أجابنا عن مميزات الطاهي المحترف، فقال: «أن يكون جاداً في التعلم ومجتهداً وصبوراً، ويمتلك الخبرة بمعرفه أذواق الناس، والمفضل في هذه المهنة حاسة الذوق الخاصة، والبيت هو الأساس في تعلّم النكهات الأساسية. هي مهنة تحتاج إلى ثقافة عالية بمجال الغذاء، والشيف الجيد يسأل عنه زبائنه ويطلبونه بالاسم مثل الطبيب المشهور، وطموحاتي أن نصل بسمعه الشيف السوري من حيث مهارة الصنع والجودة والطعم إلى جميع أنحاء العالم، فالمطبخ السوري أيقونة بتنوع أطباقه».

طبق مقدم بطريقة جديدة

ولدى سؤالنا عن رأيه بتعلم هذه المهنة كما تعلمها، أو عن طريق التسجيل بمدارس تعنى بتعلم فن الطهو، قال: «في الماضي كانت هناك معاناة شديدة في الحصول على المعلومة، فالمصدر الوحيد للتعلم هو الاحتكاك بالخبراء بهذا المجال لمدة طويلة، حالياً مصادر التعلم متعددة، وخاصة بعد دخول شبكة الإنترنت، إضافة إلى الدورات التدريبية التي تقام دورياً من قبل اختصاصين، وأنا أشجع دخول العلم؛ إذ يفتح الباب على مصراعيه للابتكار ليتناسب ومتطلبات العصر من سرعة في التحضير، وجمال الإخراج، وصحة للجسم. نصائحي لمن يريد تعلم هذه المهنة، أن يكون أميناً في عمله؛ فهو مؤتمن على أغلى شيء يملكه الإنسان؛ وهو الصحة. وصادقاً بعمله ليبدع. درّبت أكثر من 2000 طاهٍ قادرين على إعداد الطعام بالمواصفات العالمية والحفلات والمؤتمرات، ويجيدون العمل في جميع المواقع من مطاعم وفنادق وشركات».

"زياد زوكار" شيف حلويات تنفيذي في فندق "البارون" في محافظة "كربلاء" العراقية، رافق "ظاظا" في رحلة تعلمه، قال: «تعارفنا في أوائل التسعينات في أحد الفنادق الكبيرة في "دمشق"، وكنا نتلقى التدريب من قبل "شيفية" فرنسيين ومن جنسيات مختلفة، وعُرف عنه اهتمامه بأدق التفاصيل ومراقبته الدائمة لعملهم، وكان أول من يصل إلى مكان العمل، وآخر من يخرج من المطبخ. بعد أن أنهينا مدة التعلّم سافر إلى "أوروبا" ودول الخليج، وعمل في أفخم الفنادق والمطاعم، وكانت نجاحاته ترافقه واسمه يكبر، ولم ينقطع عن زيارة البلد؛ فخبراته التي كان يكتسبها كان يعلّمها لغيره، وخرّج كادراً محترفاً موجوداً في معظم دول العالم. وما يميزه بعالم الطهو فلسفته الخاصة: السهل الممتنع؛ فهو يؤمن بالطرائق البسيطة التي تبرز الجمال بعيداً عن التعقيدات أو الإضافات الزائدة».

يذكر أن "محمد ظاظا" من مواليد "دمشق"، عام 1974.