كطائر حرّ وقوده الخيال يحلّق الكاتب "بشار البطرس" منقضاً على معشوقته القصة القصيرة، فارداً جناحيه، مزهواً بشخوصه التي يطوعها نحو الواقع، وبقلب شجاع يمسك شخوصه الدرامية متجاوزاً بها حقل الألغام وسط معيار الجمال والاختلاف، مع المحافظة على معادلة الفن والمعرفة والمتعة.

مدونة وطن "eSyria" التقت القاص والسيناريست "بشار البطرس" في المركز الثقافي بمنطقة "أبو رمانة"، بتاريخ 12 كانون الثاني 2018، وبدأ حديثه بالقول: «أنا مهندس مدنيّ، متخرّج في جامعة "دمشق"، عملت في الهندسة في عدّة بلدان، كان أجملها "نيجيريا"، حيث أثْرت تلك التّجربة خيالي، لكنّني الآن متفرّغ لنشاطاتي الاجتماعيّة، بما فيها القراءة والكتابة، ولا أجد غضاضة أن يكون المهندس أو الطّبيب كاتباً؛ فالكتابة علم وفنّ».

أنا مهندس مدنيّ، متخرّج في جامعة "دمشق"، عملت في الهندسة في عدّة بلدان، كان أجملها "نيجيريا"، حيث أثْرت تلك التّجربة خيالي، لكنّني الآن متفرّغ لنشاطاتي الاجتماعيّة، بما فيها القراءة والكتابة، ولا أجد غضاضة أن يكون المهندس أو الطّبيب كاتباً؛ فالكتابة علم وفنّ

وعن بداياته يقول: «في الصّف السّابع الإعداديّ منحني أستاذ اللغة العربيّة العلامة التّامّة على موضوع التّعبير، وهو أمر لم يفعله في حياته، وطلب زيارة بيتنا للتعرّف إلى أبي، وقال له ما معناه؛ ابنك موهوب في الكتابة. وبالنسبة لي، فقد حافظت على إحساس جارف بالكتابة، وكتبت قصصاً ما زلت أحتفظ بها، تنمّ عن قدرة على توظيف الخيال. نشأت في بيت فيه مكتبة بالّلغتين العربيّة والفرنسيّة، أسّسها والدي، وأذكر أنّ والدتي الأميّة -رحمها الله- كانت تقول لي: "إنّني لا أراك تقرأ في الكتب الصّفراء (كتب كليّة الهندسة)، بل تقرأ في الكتب الأخرى". وفعلاً في ظرف 3 سنوات، قرأت مكتبة البيت كلّها، فصقلت موهبتي؛ لأنّ أغلب كتبها في النّقد الأدبيّ».

إدارة الكاتب بشار البطرس لأحد منتديات القصة القصيرة

وعن موهبته في مرحلة الشباب والجوائز التي حصل عليها، قال: «أثناء دراستي الجامعيّة، بدأت القراءة بغزارة في ميدانيّ الفلسفة وعلم النّفس، وفي سنة واحدة قرأت كلّ ما وقع تحت يديّ من قصص عربيّة وأجنبيّة، فاكتشفت أنّ لديّ شيئاً خاصّاً بي لا يشبه أحداً من الذين قرأت لهم. قرأت إعلاناً لمسابقة للقصّة القصيرة في دار "سعاد الصباح" للمجموعات القصصيّة، فأرسلت 15 قصّة إلى العنوان، وبدأت أنشر في صفحة "إبداعات الشّباب" في صحيفة "تشرين" السّوريّة تلك القصص؛ وإذ بناقد قاصّ يكتب عن أوّل قصّة أنشرها، فيقول: "إنّها قصّة جميلة لكاتب مغمور"؛ كان المقال أجمل من القصّة نفسها، وتعرّفت إلى الرّجل بطريقة طريفة، وقال لي: "لو كانت المسابقة نزيهة، كان يجب أن تحصل على المرتبة الأولى". حصلت على المركز الثّاني في المسابقة، وحصل معي طرائف في ذلك، حيث حصلت قصص لي على جوائز في مسابقات تشترط الكتابة في موضوع معيّن، بينما لا تتقيّد قصصي بذلك المضمون، لكنّها حصلت على الجائزة لجمالها، إلى أن أحجمت عن الاشتراك في المسابقات، لقناعتي بأنّني حصلت على تقييم معقول لما أكتب».

وتابع: «والدي خرّيج أوّل دفعة من جامعة "السّوربون"، من المؤسف أنه كان يرمي أوراقي الّتي يتلصّص عليها، قائلاً: "اذهب واقرأ لفولتير وفلوبير؛ فأنت كاتب فاشل". ومن المفارقات الطّريفة أنّني أطلعته على أوّل قصّة نُشرت لي، بينما هو على فراش المرض، لا يستطيع الكلام، فأومأ برأسه حين شاهد اسمي الثّلاثيّ، وكأنّه يقول: "لقد انتصرتَ عليّ، بفضل توبيخي السّابق لقصصك"، ومع ذلك، فقد كتبت 16 قصّة قصيرة، وعلى الرغم من ترددي، إلا أنّني تشجّعت، وأطلعت بعض المهتمّين عليها، فقيل لي، إنّني موهوب في كتابة القصّة».

مشاركة الكاتب البطرس بنادي شام للقراء

جائزة "سعاد الصّباح" جعلت الوسط السّوريّ الثّقافيّ يستقبله بحفاوة؛ فقد جاءه بجائزة مهمّة من خارج "سورية"، ولدى سؤالنا عن أهمّ ما ساعده على تطوير موهبته، أجاب: «القراءة الجادّة في كلّ صنوف المعرفة خصوصاً ما يشحذ الخيال، وأخصّ بالذّكر علم النّفس والتّاريخ والفلسفة والعلوم الطّبيعيّة؛ تجعل الحياة ملوّنة وغنيّة بالتّجارب من هنا وهناك. كما أنني عازف إيقاع شرقيّ، وعملت مع فرق موسيقيّة، بعد أن نجحت في فحص نقابة الفنّانين، ومحبّ للتجارب الاجتماعيّة الخارجة عن المألوف؛ (وهذا رأي النقّاد في شخصيّتي)، كذلك لي طريقتي الخّاصّة في الحياة، من حيث النّظام وممارسة الرّياضة، والكتابة للتّلفزيون في أوقات محدّدة. المهمّ هو أن يعيش الكاتب الحياة بأقصى قدر يستطيع، بما فيها حياة من قرأ كتبهم».

وعند سؤالنا من أين يستمد شخوص قصصه، وما رأيه بكتاباته، أجاب: «وقودي خيالي؛ لم أكتب في حياتي قصّة جرت معي، لكنّ ما أكتبه، يشبه من مرّوا في حياتي؛ لأنّ الشخصيّة القصصيّة مزيج مركّب من عدة شخصيّات في الحياة، لذلك تأتي مقنعة وممتعة، أعدّ الكتابة امتحاناً للخيال، بينما كتابة ما جرى عمل سهل. من دون مبالغات، لست راضياً عمّا كتبت، عندي حلم دائم بأن أتجاوز نفسي؛ فاليوم بعد أكثر من 50 قصّة كتبتها، أرتجف أمام كتابة قصّة جديدة، مخافة أن لا تكون جميلة.

مشاركته بالعزف

الكتابة حقل تجريب مملوء بالألغام، ولا يعرف الكاتب الجيّد والموهوب كيف يعبر هذا الحقل سالماً؛ الكاتب الجيّد هو من يطوّع خياله جيّداً نحو الواقعيّة؛ أيّ إنّه الشّخص الّذي يصدّق النّاس كذبه الأبيض، هو من يصل إلى "الصّدق الفنيّ" في كذبه. الرّضا عن النّفس في الإبداع، يعني توقّف المبدع عن التجريب والتّجديد في طرائق كتابته الفنيّة؛ وهو ما يعني أنّ موهبته قد نضبت».

وعن كتاباته للتلفزيون، قال: «كتبت السّيناريو للتّلفزيون، بعد أن نصحني كثيرون من الأصدقاء بالكتابة؛ لما تمتلكه قصصي من شخصيّات دراميّة، وحبكات قويّة، وقد حوّلت بعضاً من قصصي إلى مسلسل "بقعة ضوء"؛ قصّة "مواجهات صغيرة" مثال على ذلك، لكنّ القصّة القصيرة هي عشقي؛ أحلّق بها، وتحلّق بي. الكتابة للتّلفزيون أشبه بالعمل؛ فبعد إنهاء رسم الشّخصيّات، وتخيّل الحبكات لكلّ شخصيّة، تصير ترجمة ذلك على الورق عملاً روتينيّاً، ومع ذلك هناك مشاهد بعينها في مسلسلاتي ما زلت أذكر أنّني كتبتها بتلذّذ».

وعن نشره في المجلات والدور العربية وخاصة في "لبنان"، قال: «بعثت إلى ملحق صحيفة "السّفير" البيروتيّة الثّقافيّ قصصاً، نشرها مدير الملحق الشّاعر "عبّاس بيضون" من دون أن يعرفني، ولم أقابله في حياتي، حتّى ظنّني القرّاء كاتباً لبنانيّاً بسبب الكنية، وصار يوصي ضيوفه السّوريّين بي قائلاً: "لديكم قاصّ شابّ موهوب، اعتنوا به، وسلّموا عليه"».

القاص والناقد "أحمد هلال" المطلع على مسيرة "البطرس" الأدبية، قال: «يمثل الدخول إلى عوالم القاص و"السيناريست" والمعالج الدرامي الأستاذ "البطرس" مغامرة بحدّ ذاتها، وعلينا تتبعها بأسلوب مختلف؛ إذ لا يركن إلى التحديدات المسبقة أو مجرد الاحتفاء بها. أعماله الأدبية وخاصة في حقل القصة القصيرة، بدءاً من "شجرة توت شامي"، التي حازت (جائزة سعاد الصّباح للقصّة القصيرة للشّباب عام 1996). وصولاً إلى مجموعته "المنبوذ" التي صدرت عام 2015.

يبدو مقلاً كما يتراءى للنقاد، إلا أنه كاتب نوعي تبقى معادلة الفن هاجسه الأكبر، حيث أضاف إليها إيمانه بالتجريب والمغامرة الإبداعية، وأظن أن انحيازه إلى الواقعية يعدّ قيمة مضافة، ولا سيما إذا عرفنا أنه عبر معادلة الشكل والمضمون يقدم حداثة في التفكير والكتابة من قلب هذه الواقعية. تقوم مغامرته الإبداعية بعلاماتها الثلاث على معايشة الواقع ثم مفارقته، بقدر كبير من تحرير الوعي بالفن القصصي، وتحدياته الهائلة، والرهان على جمالياته العابرة للتجنيس أو التقعيد؛ وهذا ما لاحظناه في مجموعته الأخيرة "المنبوذ"؛ أي في كسر الإيهام بالواقع، بجرأة المغامرة المحسوبة على مستوى التلقي لها، ويمكن القول إنه من الأصوات القليلة جداً في المشهد الإبداعي السوري، من خلال حساسية ما تطرحه صياغة ورؤية، والبناء الفني المغاير، الذي يقوم على الاقتصاد والنوعية، وجدل القيمة التي تستحق تأويل وكشف الخطاب النقدي».

يذكر أن "بشار البطرس" من مواليد "دمشق"، عام 1963، حصل على عدة جوائز محليّة وعربيّة منها: جائزة "جبرا إبراهيم جبرا" للقصّة القصيرة عام 1996، جائزة "غسّان كنفاني" للقصّة القصيرة عام 1997، جائزة "مهرجان إدلب الأدبي" عام 1998، جائزة "ماجد أبو شرار" للقصّة القصيرة الدّورة الأولى عام 1998.