عن عمر ناهز 92 عاماً ترجل الناقد والمخرج السينمائي الكبير "صلاح دهني"، تاركاً خلفه أرشيفاً ضخماً من الأعمال السينمائية والروائية والإذاعية التي توثق لأكثر من ستين عاماً من تاريخ الثقافة السينمائية في "سورية" والوطن العربي.

فهو الذي قال: «كان في "سورية" سنة 1952 ما يقارب 102 صالة عرض سينمائي، ووصل عددها الآن إلى أقل من 60 صالة متمركزة أساساً في "دمشق" و"حلب" وبعض المحافظات الأخرى، مع أن عدد السكان في عام 1952 كان 2.5 مليون نسمة، والآن يصل عدد السكان إلى 20 مليوناً. وكان الرقم سيتناقص أكثر لولا صدور توجيه من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الثقافة بعدم أحقية أصحاب دور السينما بإغلاقها أو هدمها أو تبديلها بمهنة أخرى؛ لأن السينما نشاط سياحي، ولا يعقل أن نبقى من دون صالات عرض في بلد سياحي».

كان عام 2008 مبشراً بعودة القطاع الخاص إلى الإنتاج مع كل من تجارب "سيلينا" و"الليل الطويل" لـ"حاتم علي"، و"التجلي الأخير لـ"هيثم حقي"، و"روداج" لـ"نضال الدبس"، و"مطر أيلول" لـ"عبد اللطيف عبد الحميد"، إضافة إلى فيلمي "نصف ملغ نيكوتين"، و"دمشق مع حبي" لـ"محمد عبد العزيز")

هكذا كان "صلاح دهني" في حياته الحافلة التي قضاها مدافعاً عن "الفن السابع" وكوادره ومبدعيه، حيث تحدث الناقد والمخرج المسرحي "سامر محمد إسماعيل" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 27 تشرين الأول 2017، عن الراحل "صلاح دهني" وكتابه التوثيقي "السينما السورية.. مكاشفات بلا أقنعة"، منطلقاً من خمسينات القرن الماضي، وهو التاريخ الحقيقي لانطلاق الراحل في الحياة العملية، فقال: «يعود الناقد السينمائي في كتابه المذكور إلى خمسينات القرن الفائت بعد تخرجه كأول سوري عام 1950 في المعهد العالي للدراسات السينمائية في "باريس"، فقال: "إن مرحلة تبني الدولة للسينما واعترافها بها كجزء لا يتجزأ من الثقافة الوطنية للشعب وتربيته، لم تأتِ من فراغ، ولا كمنحة غير محسوبة أو مصادفة مبرورة، فلقد جاء هذا التبني بعد خيبات الماضي كتسلسل طبيعي للحراك الثقافي والاجتماعي الذي عرفته البلاد، وبلغ قمته في خمسينات القرن الماضي".

لقطة من أحد أفلامه من بطولة الراحل عمر حمدي

إن بداية التحول في حياة السينما في "سورية" كانت بعيد قيام الوحدة مع "مصر" عام 1958، حيث أحدثت وقتئذٍ دائرة صغيرة للسينما والتصوير تولى "دهني" إدارتها مع بداية عام 1960 كانت تابعة لوزارة الثقافة والإرشاد القومي على صورة مثيلتها في "مصر" في تلك الأيام، لتكون هذه الدائرة بمنزلة نواة لعمل سينمائي حقيقي ضمن إطار هيئة حكومية ثقافية للخلاص بعدها نحو فكرة إحداث مؤسسة عامة للسينما قدم لها "دهني" مشروعها التأسيسي في كنف المجلس الأعلى للآداب والفنون بعد عرضه على مجلس قيادة ثورة آذار، ليصدر مرسوماً تشريعياً عام 1963 بإحداث "المؤسسة العامة للسينما" كحقيقة واقعة ذات استقلال مالي وإداري».

ويتابع "إسماعيل": «يسرد صاحب كتاب "قصة السينما في سورية" المرحلة الثالثة من عمر الفن السابع في بلاده مع بداية تكون القطاع الخاص أسوةً بنجاح الأفلام المصرية التجارية الذي شجع العديد من المنتجين وأصحاب المال على دخول مغامرة الإنتاج السينمائي مع بداية عام 1962، إلا أن هذه التجربة سرعان ما انهارت بعد عشر سنوات على انطلاقها، حيث إن أفلامها لم تراعِ أبجديات الفن السينمائي، فكانت تقليداً سيئاً للأفلام المصرية التجارية.

الناقد والكاتب المخرج سامر إسماعيل

ويروي "دهني" عن مرحلة التأسيس للمؤسسة العامة للسينما، حيث ركزت عملها ضمن خطة محددة ومدروسة على إنتاج أفلام قصيرة لزيادة خبرة الفنيين الشبان العاملين فيها ممن بدؤوا يعودون من البعثات التي أوفدوا بها لتتزود بعدها المؤسسة بمزيد من الأجهزة اللازمة لعملها، والسعي لإنتاج أول فيلم طويل للمخرج الراحل "محمد شاهين" حمل عنوان: "زهرة من المدينة"، ليتبعه فيلم "سائق الشاحنة" عام 1968 من إخراج اليوغوسلافي "بوشكو فوتشينيتش"، الذي جاء بعد نكسة 1967».

ويتحدث صاحب رواية "ملح الأرض" في كتابه عن الفيلم الروائي "رجال تحت الشمس"، الذي أنتجته المؤسسة عام 1970 بإخراج مشترك لكل من "مروان مؤذن" و"نبيل المالح" و"محمد شاهين" ليحصد هذا الفيلم الذي جمع شاعرية الصورة والإيقاع السردي الجائزة الفضية في مهرجان "قرطاج" السينمائي، محققاً انطلاقة جديدة لسينما وطنية أكثر نضجاً. لتتبعه المؤسسة عام 1971 بإنتاج فيلمها الطويل "السكين" عن قصة "ما تبقى لكم" للكاتب الفلسطيني "غسان كنفاني"، وبتوقيع "خالد حمادة".

كما يتناول الكتاب الصادر عن "اتحاد الكتاب العرب" ذكريات الناقد السوري عن برنامجه الإذاعي الأسبوعي "صوت وصورة"، الذي استمر منذ عام 1989 حتى عام 2005، إضافة إلى برنامج "السينما في أسبوع"، الذي امتد من خمسينات القرن الفائت على أثير إذاعة "دمشق"، ليقدم "دهني" بين عامي 1952 و1974 أكثر من 1600 حديث عن السينما كانت موئلاً لعشاق ومتابعي أخبار السينما في "سورية" والوطن العربي.

ويتطرق الراحل في مؤلفه إلى السينما الجديدة في "سورية" بالقول: «كان عام 2008 مبشراً بعودة القطاع الخاص إلى الإنتاج مع كل من تجارب "سيلينا" و"الليل الطويل" لـ"حاتم علي"، و"التجلي الأخير لـ"هيثم حقي"، و"روداج" لـ"نضال الدبس"، و"مطر أيلول" لـ"عبد اللطيف عبد الحميد"، إضافة إلى فيلمي "نصف ملغ نيكوتين"، و"دمشق مع حبي" لـ"محمد عبد العزيز")».

وتحدث الناقد "بشار إبراهيم" عن حياة الراحل "دهني" بالقول: «لا جدال في أن السينمائي الرائد والمؤسّس "صلاح دهني" من أوائل السينمائيين العرب الذين درسوا السينما، واحترفوا العمل السينمائي بمختلف جوانبه، من الإخراج إلى الكتابة والنقد، وصولاً إلى الإدارة والإشراف. ولا يمكن ذكر السينما السورية منذ بداياتها الأولى حتى اليوم من دون التوقف عنده، وما قدّمه للسينما السورية، كما للثقافة والإبداع.

وُلد "صلاح دهني" في "درعا" عام 1925، وتلقّى تعليمه في "دمشق"، وتخرّج في معهد "الدراسات السينمائية العالية" في "باريس" عام 1950، وفي "معهد الفيلمولوجي"، (علم الفيلم) من جامعة "السوربون". وعمل مخرجاً سينمائياً ومحرراً وناقداً سينمائياً، ورئيساً لدائرة السينما والتصوير في وزارة الثقافة، ومديراً لإدارة الشؤون الفنية في "المؤسسة العامة للسينما".

أخرج للسينما فيلمه الروائي الطويل: "الأبطال يولدون مرتين" عام 1977، وهو من بطولة "عماد حمدي"، و"منى واصف"، كما حقّق عدداً من الأفلام الوثائقية، منها: "الماء والجفاف" عام 1961، و"الآثار العربية في سورية" عام 1962، والزجاج السوري عام 1966، و"زهرة الجولان" عام 1974، و"ابن النفيس" عام 1979، و"الفن العربي الإسلامي" عام 1981.

له في مجال الكتابة السينمائية "قصة السينما" عام 1951، و"قصة السينما في سورية"، بالاشتراك مع "رشيد جلال" عام 1963، و"دعوة إلى السينما" عام 1979، و"سينما سينما" عام 1979، و"قضايا السينما والتلفزيون في العالم العربي" عام 1992. وترجم "حياة غودار وأعماله" عام 1972، و"السينما الجديدة" عام 1974، وكان قد أصدر "معجم المصطلحات السينمائية - عربي، فرنسي، إنكليزي، عام 1965».

ومن الطرائف التي تحدث عنها الكاتب "عادل أبو شنب" عن المبدعين السوريين في كتابه الذي حمل عنوان: "شوام ظرفاء": «كان المخرج السينمائي والأديب السوري "صلاح دهني" البنك المتنقل لشلة من الأدباء في الخمسينات من القرن الماضي، فكان يدفع عنهم إذا ما كانوا في عسر، ويسجل ما دفعه عن كل منهم في دفتر صغير كان يحمله في جيبه أبداً، وفي سهرة من السهرات في حي "باب توما" الدمشقي كان عدد من الأدباء يأكلون ويشربون ويتسامرون، وبينهم الراحلان "سعيد حورانية" و"محمد الحريري"، والشاعر "شوقي بغدادي"، و"شحادة الخوري"، و"ليان ديراني"، وكالعادة فإن "دهني" أخرج دفتره ليسجل عليه ما دفعه من مال عن فلان وفلان، فما كان من "سعيد حورانية" إلا أن اختطف هذا الدفتر وببرود أعصاب أشعل النار فيه بعود ثقاب، فهلل المدينون وكبّروا سروراً.‏

لكن "صلاح دهني" لم يتأثر ولم يفقد توازنه، بل راح يبتسم بلا اكتراث، فقال له "شوقي بغدادي":‏ (راحت أموالك يا "صلاح"، أكلتها نيران "سعيد حورانية").‏

ابتسم "صلاح"، وقال:‏ "هل أنا غرّ إلى هذه الدرجة؟ ألا تعلم أن في البيت نسخة طبق الأصل من هذا الدفتر؟"».‏

يذكر أن المخرج والناقد السينمائي "صلاح دهني" توفي بتاريخ 27 تشرين الأول 2017، ابنه المخرج التلفزيوني "فراس دهني".