تنقّله الكثير خلال طفولته بحكم عمل والده، ترك في حياته أثراً دفعه إلى الكتابة في كافة الأجناس الأدبية، لكن شعر التفعيلة كان الحقل الأهمّ.

مدونة وطن "eSyria"، التقت الشاعر "إبراهيم منصور" بتاريخ 4 نيسان 2017، وعن نشأته وبداياته الأدبية، قال: «لا أفهم النشأة على أنّها مرحلة يمر بها الإنسان في الماضي ثمّ تنقضي، بل أفهمها باعتبارها صيرورة، مستمرّة لا تنتهي حتى بالموت. أمّا المعنى الشائع للنشأة، فقد كنت الطفل الوحيد لأسرة متوسطة الحال، تتنقل بحكم عمل الأب بين كثير من الأمكنة وفي أوقات زمنية متقاربة؛ الأمر الذي كوّن وعيي منذ البدء بدلالة السفر وعدم الاستقرار في مكان واحد، وما رافق ذلك من مشاعر وحقائق كانت قاسية على ذهن الطفل، ولعلّ أهم ما تعلّمته حينئذٍ، أنّ كل شيء سرعان ما يتغيّر، بحكم تبدّل الأصدقاء والمدرسة والجيران، وطريقة الحياة والمعيشة.

إنَّ الذي زعمَ الحقيقةَ كلَّها... لمّا ينلْ بالظنِّ غيرَ نقيضِها

بعد المرحلة الثانوية، دخلت كليّة التجارة والاقتصاد، لكنّني لم أنسجم مع مقرّرات هذا الفرع، وجدت نفسي غريباً بين كتب المحاسبة والإحصاء، باستثناء مادة الاقتصاد السياسي التي كنت أحبّها. وفي السنة الثانية، قرّرت أن أغيّر دراستي، لتكون الفلسفة مجالي الجديد، التي تركت انعكاسها عليّ».

أحد إصداراته

ويضيف عن بداياته الأدبية: «بداياتي في مجال الأدب كانت ساذجة وبسيطة، لكنّها صادقة وفيها الكثير من التمرّد والمشاعر الوجدانية، والحنين إلى مكان آخر مختلف عن المكان الذي أكون فيه؛ بحكم التنقّل الذي عشته خلال طفولتي. وما تحمله ذاكرتي أنّ أول قصيدة كتبتها كانت في الثاني الإعدادي في هجاء مدير المدرسة ومعلّمة مادة اللغة العربية، ثمّ أخذت هذه الهواية تتبلور شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت هاجسي الأساسي في الحياة، فكان الشّعر بالنسبة لي المكان الوحيد الذي أستطيع فيه خلق العالم كما أحبّ وبطريقة مختلفة عن السائد والمألوف، لكنّني لم أصبح شاعراً حتّى عشقت؛ فالمرأة هي التي جعلت منّي شاعراً، ولم تقتصر كتاباتي على الشعر، بل كتبت القصة، والقصة القصيرة، والمقال، وكانت لي عدّة محاولات لكتابة الرّواية، ولكنني كنت سريع السّأم، ولم أطقْ السّرد والمبالغة في التوصيف، بل كنت أميل إلى الكثافة والتلميح، وترك المجال أمام خيال القارئ لفهم النّص بالطريقة التي تنسجم مع معرفته وذائقته، الشعر بالنسبة لي هو كلام مختلف عن الكلام العادي من حيث المبنى والمعنى والشكل والمضمون، يتم التفريق بينهما من خلال الموسيقا بالنسبة لي. أكتب الشعر باللغة العربيّة الفصيحة، العمودي والتفعيلة. أما الشعر باللهجة المحكية، فلا أجيده، لكنني أرتجل مع الأصدقاء القليل من "الزجل والعتابا" لمجرّد البهجة لا أكثر، وأظن أنّ الكلمة الجميلة والصورة المدهشة هي الأهم سواء كان شعراً فصيحاً أم محكيّاً، ولكلّ جمهورهُ، وقد يكون جمهوراً واحداً عندما يكون شعراً جيّداً، ولم تعد التقسيمات القديمة تقيّد الشاعر المعاصر، قد يكتب في قصيدة واحدة عن الحرب والحب مثلاً، المهم كيف يكتب. وبرأيي، الشعر الصادر عن موهبة فقط لا يضيفُ جديداً إلى الأدب، وأرى أن الشعر لا يعدُّ فنّاً ما لمْ تُحكم صنعتهُ، الموهبة هي شعلة النار التي يستنير بها الشاعر، لكنها سرعان ما تنطفئ إذا لم يدّخر الشاعر بنية فكريّة ومعرفية تدفعه إلى الأمام باستمرار».

وعن العلاقة بين شخصيته وشخصية المادة الشعرية، قال: «الشعر هو الشاعر، وقد تحوّل إلى كلمات، ذات واحدة، وأنا كذلك في حالة امتزاج دائم مع القصيدة، وعلى الشاعر أن ينحاز دائماً إلى قيم الحق والخير والجمال، سواء في المجتمع أو في النفس الإنسانية، هذا هو المعيار المطلق، قد يخفق وقد يصيب، لكنه لا يمكن أن يكون خائناً لرسالته الكبرى أبداً، هكذا يكون وطنيّاً بامتياز».

الناقد أحمد هلال

وقال عن مشاركاته الأدبية وأهم إصداراته: «تعددت مشاركاتي بين المراكز الثقافية والأمسيات الخاصة والملتقيات، ومن خلالها أدركت البعد المسرحي للشعر، فالقصيدة على الورق ليست ذاتها عند التفاعل بين المرسل والمتلقي، وهكذا أطوّر قدرتي على الكتابة باستمرار، وبرأيي سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي عملية النشر والتلقّي أكثر، لكنّها أشاعت الشعر الرديء السطحي، فاختلطت الأذواق وفسدت. لديّ مجموعتان شعريّتان مطبوعتان، الأولى بعنوان: "إله من طين"، صادر عن اتحاد الكتاب العرب في "دمشق"، والثانية: "تاء التأنيث الغائبة" عن دار "بعل"، وهناك حالياً مجموعة قيد الطبع بعنوان: "أجساد شائكة"».

إلى جانب الشعر، لدى "إبراهيم" موهبة الرسم، وعن العلاقة بينهما يقول: «اللوحة والقصيدة والموسيقا جوهرياً هبة روحيّة واحدة، تأخذ أشكالاً مختلفة عندما تتجسّد، بهذا الاعتقاد كنت أرسم عندما أعجز عن الكتابة، وأكتب عندما أعجز عن الرسم، وأغلب الأحيان كنت أرسم البورتريه، ربما لأن الوجه البشري كما أراه يحمل دلالات عميقة ومتجدّدة لا تنضب، ولكلّ وجه بصمة خاصة تخفي الكثير من الحيوات الصامتة، ألواني لم تكن صافية بل داكنة ومختلطة».

خلال إحدى مشاركاته

ولخص حكمته في الحياة بيبت شعر: «إنَّ الذي زعمَ الحقيقةَ كلَّها... لمّا ينلْ بالظنِّ غيرَ نقيضِها».

ويختتم حديثه بالقول: «جلّ ما أرجوهُ من شمسي، الشّروقُ لمرّةٍ، ثمّ ارتحالي تاركاً بعضَ الشّفقْ».

عنه قال الكاتب والناقد "أحمد هلال": «لا يمكن استقراء تجربته من دون الوقوف عند حساسيتها وصيرورة هواجسها الإبداعية مع كثافة زخمها التعبيري "الحداثوي"، ونزوعها في الأغلب الأعم إلى المغايرة والاختلاف. تجربة "إبراهيم" تستحق التفاتة نقدية فاحصة من حيث الجمالية والفكرية واللغوية، التي أجده فيها أكثر قدرة على التجديد في المشهد الشعري السوري وزحزحة القارئ والمستقر في الشعرية السائدة، صوت لا يشبه إلا ذاته، محمول على منظومة معرفية تحرر الإبداع ليكون تجربة جمالية خالصة».

أما الكاتب والناقد "عمر جمعة"، فقال: «تنبع أهمية تجربة "إبراهيم" من ثرائها الباذخ، ووعيها بدور الكتابة، وثقافتها الواضحة في كل جملة شعرية ودلالة لفظية يوظفها في قصائده التي تشير إلى مبدع خلاّق، مولع بالتجريب وارتياد مساحات شاسعة من التجديد، قصائده مترعة بجماليات ومشهديات بصرية أبدع في التقاط ملامحها، وبدت جليّة في ديوانه "تاء التأنيث الغائبة"، الذي ذهب جزءٌ كبيرٌ منه إلى خلق حالةٍ من التماهي ما بين الأنثى والخصب والجمال والعشق والوطن، ويمكن القول إنه في جلّ ما كتبه يعدّ حالياً من الشعراء القلائل الذين يؤسّسون لتجربتهم الإبداعية بالكثير من القوة والثقة بالنفس، بحثاً عن التميّز والتغيير في شكل القصيدة ومضمونها».

من كتاباته:

"لا يقطِرُ العطرُ الشّهيُّ على يديَّ

وليسَ في وسعي محاكاةُ الحبَقْ

لا أُحسنُ العومَ الذي أنجو بهِ

لكنّني

في كلّ بحرٍ قد تعلّمْتُ الغرَقْ

أنا بينَ هاويتينِ دوماً

جلّ ما أرجوهُ من شمسي الشروق لمرّةٍ

ثمّ ارتحالي... تاركاً بعضَ الشّفَقْ".

يذكر أنّ "إبراهيم منصور" من مواليد "دمشق"، عام 1985.