لا نبالغ حين ننعته أبو طب الأطفال في "سورية"، لأنه أسهم بشكل رئيسي في تطوير هذا الاختصاص بعيد الاستقلال، كان مدرساً في جامعة "دمشق" وأحد أعمدة كلية "الطب" فيها.

إنه الأستاذ الدكتور "سهيل بدورة" الذي يحتفظ لنفسه بمكانة خاصة عند كل من زملائه والمرضى الذين قصدوه، يقول السيد "سمير زريق" لمشروع "eSyria" وهو أحد المرضى الذين عالجهم الدكتور "بدورة" منذ /40/ عاماً:

عالجني الدكتور "سهيل" –رحمه الله- عندما كنت طفلاً صغيراً والآن أنا بدوري أعالج ولدي عند ابنه الدكتور "جابر سهيل بدورة" الذي هو بدوره أيضاً طبيب أطفال، في نفس العيادة القديمة

«عالجني الدكتور "سهيل" –رحمه الله- عندما كنت طفلاً صغيراً والآن أنا بدوري أعالج ولدي عند ابنه الدكتور "جابر سهيل بدورة" الذي هو بدوره أيضاً طبيب أطفال، في نفس العيادة القديمة».

السيد "سمير زريق"

أما الدكتور "وحيد العظمة" أحد أقدم الأطباء في دمشق في اختصاص الأطفال يقول: «استطاع الدكتور "سهيل بدورة" أن يستقطب كافة تلامذته من خلال إتقانه لمهنة الأستذة، والتطبيق العملي للمواد المكتوبة، ويحدثنا نجله الدكتور "جابر" قائلاً: كان محاضراً رائعاً ولطالما غص المدرج بتلامذته للاستمتاع والإفادة بعلمه الغزير».

ينتمي الدكتور "سهيل بدورة" إلى أسرة أعطت مدينة دمشق أبناءً عُرفوا في مجالي الإدارة والعلم؛ فوالده "جميل بن إبراهيم بدورة" -المولود في دمشق عام 1892-؛ شغل منصب رئيس المديرية العامة للديوان السلطاني العثماني، وقد تسلم فيما بعد مناصب عدة كان آخرها في إدارة السكة الحديدية الحجازية، وقد سكن السيد "جميل" حي القنوات حيث ولد الدكتور "سهيل" عام 1921 ليتلقى علومه في مدارس دمشق الابتدائية الحكومية، لينتقل بعدها إلى المدرسة العازارية وفيها أتم دراسته الثانوية في معهد اللاييك، وينال من هناك شهادة البكالوريا بقسميها العربي والفرنسي، إضافة إلى إتمامه لدراسته في العلوم المالية، لينتسب إلى المعهد الطبي العربي في دمشق ليتخرج منه طبيباً عام 1946، ليحترف مهنة الطب كطبيب في شعبة الأطفال في شباط عام 1948.

دفعته طموحاته العلمية ليغترف من منهل البحث العلمي في جامعتي باريس وجنيف ليعود فيما بعد إلى موطنه مختصاً في مجال طب الأطفال الذين كان لهم الحظوة في حياته التي سخرها لمعالجة السقيم منهم.

عرف عن الدكتور سهيل ولعه الشديد بتقديم كل ما هو جديد في علم طب الأطفال، فقد شغف بالبحث العلمي إضافةً إلى ممارسته مهنة الطب، وأجاد في مهنة التدريس من خلال أسلوبه المتميز بطريقة مبتكرة في منهجية البحث العلمي، ومنذ خمسينيات القرن الماضي كان محاضراً متألقاً على منابر كلية طب دمشق، محاضراً قل نظرائه بما يقدمه من زخم علمي ودعم لتلامذته من خلال الوقوف على تخريج دفعات متتالية من خريجي مدرسة طب دمشق.

الدكتور "جابر سهيل بدورة"

للدكتور "بدورة" مؤلفات عدة في طب الأطفال، كان أهمها أول مؤلفاته الذي اعتمدته جامعة دمشق كتاب أساس يدرسه من يرفد الجامعة حتى اليوم، وتأتي أهميته من تتبع أطباء كثرت المنهجية العلمية في مؤلفاتهم خلال تقديمهم لمؤلفات علمية تدور في فلك طب الأطفال.

للدكتور "سهيل" حضور متألق دائم التواصل مع كل تطور يخص مجاله فكان مشاركاً في تأسيس "جمعية طب الأطفال" في سورية، وترأس مؤتمر "اتحاد جمعيات أطباء أطفال الشرق الأوسط والبحر المتوسط" لعام 1988، شغل منصب رئاسة البورد العربي لطب الأطفال فكان رئيس اللجنة الامتحانية فيه، وترأس الهيئة التدريسية في جامعة دمشق بعد وفاة أستاذه المغفور له الدكتور "جميل سالم".

عمل طوال حياته جاهداً على تطوير قسم الأطفال وذلك بنقله من جناح صغير يضم 17 سريراً في بناء دار التوليد القديم ليصبح قسماً مستقلاً في بناء المشفى الوطني ليصبح عدد أسرته 62 سريراً مع زيادة الطاقم الطبي والكوادر المساعدة؛ لينتقل بعدد العاملين من 2 إلى 10 أطباء، مؤكداً العمل بتطوير الخدمات اللازمة لهذا القسم، باستقدام خبرات أجنبية للاستفادة من خبراتها في تطوير وتفعيل الكادر الموجود، هذا بالإضافة إلى إقامة جلسات علمية دورية تخص طب الأطفال مفتوحة لكافة الأطباء .

وبجهوده الخاصة استطاع الحصول على موافقة رئاسية لبناء مشفى خاص بالأطفال تابع لجامعة دمشق، وعليه دأب بدورة على الإشراف والتوجيه مستعيناً بخبرات فرنسية متخصصة ببناء وتجهيز مشافي الأطفال؛ وخلال خمس سنوات ونيف كان حاضراً في الموقع يشرف ويوجه يعيش لحظات اكتمال مشروعه المتألق مشفى الأطفال الحالي بدمشق، الذي مازال جاثماً يحمل بصماته في التخطيط والتنفيذ والافتتاح الذي تم عام 1988.

هذا بالإضافة إلى مشاركته الفعالة في وضع وإقرار النظام الداخلي لضمان الإدارة المستقلة مع الارتباط الأكاديمي لجامعة دمشق، وعليه بات هذا الصرح الجديد صرح علمي؛ حيث تبوأ بدورة رئاسته لسنوات عمل خلالها جاهداً لتقديم خدمات طيبة مجانية وخاصة لكل طفل بحاجة للرعاية الطبية.

كلف الدكتور "بدورة" بإدارة مشفى الأسد الجامعي بين عامي 1992-2001، حيث قام أثناء تواجده بإحداث مركز غسيل الكلية، مع تجهيزه بكافة الأجهزة الحديثة؛ كذلك طور قسم الغاما كاميرا (تصوير القلب) وذلك لعلاج العدد المتزايد من مرضى القلب، وطوال فترة عمله عمل جاهداً على إصدار وتنفيذ قانون الحوافز، حتى صدوره والعمل به، فبات الأطباء يتوافدون على مشافي الدولة للعمل.

عشق الدكتور المرحوم "سهيل بدورة" مهنته وعمل طوال حياته على خدمة مواطنيه وحتى بعد تقاعده لم يحجب خدماته حيث استمر في العمل، وكما هو الدكتور المرحوم "فيصل الصباغ" أبو الطب العصبي في سورية فإن الدكتور بدورة كان أباً لطب الأطفال فيها، فأينما حل كان نبراس كل جديد في مجاله، مقدماً جهود لا تحصى في سبيل تطوير ما بدأه أطباء الأطفال الذين سبقوه واضعا أسساً متينة لطلابه يقفوا عليها في سبيل خدمة الوطن والمواطنين.

الدكتور "جابر سهيل بدورة" تحدث عن قصة طريفة تبرهن على مكانة الدكتور "بدورة" بين طلابه، كان ذلك عندما ذهب في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة- شيكاغو، حيث قال: «فور وصول الدكتور "بدورة" قام أحد طلابه السوريين القدامى بنشر خبر قدومه بين الطلاب السوريين، ولم تمض ساعات إلا وغصت المشفى بجمهرة من الأطباء السوريين المقيمين هناك، والذين كانوا في الغالب تلامذته في وطنهم الأم في كلية الطب، وكان يسير بينهم وهم يحيطون به فخورين لكونهم يرافقون أستاذهم المعلم»

/2005/ ودعنا الدكتور "سهيل بدورة" إلا أنه لم يرحل فهو الغائب الحاضر، غائب بجسده، حاضر بروحه التي حملها تلامذته المتناثرين في بقاع مختلفة من العالم، وتقديراً لجهوده أطلق اسمه على مدرج من مدرجات جامعة دمشق.