ربما يكون عمره من عمر أقدم عاصمةٍ مأهولةٍ في التاريخ، تهفو إليه قلوب عشـّاق المدينة العتيقة، ولا تتوقف فيه الحركة على مدار اليوم، إنه حي "باب توما" الذي يمتد على رقعةٍ كبيرةٍ من المدينة القديمة بمحاذاة القسم الشمالي والشرقي لسور "دمشق" بين باب "توما"، والباب الشرقي، وما زالت بعض بيوته الأثرية الآهلة بالسكان تعلو أطراف هذا السور في مشهدٍ استثنائي.

أخذ الحي اسمه من الباب الذي بناه البيزنطيون على سور "دمشق" القديمة من الجهة الشمالية، وأطلقوا عليه اسم أحد تلامذة "المسيح" عليه السلام، وجدده "زنكي" أيام السلطان "محمد بن قلاوون" سنة 764 هجريه، ولم يبق منه اليوم إلى شكل البوابة التي تحولت إلى ساحةٍ أثرية تعتبر من أكثر الساحات حيويةً في المدينة.

تعود ملكيته إلى أبناء "جورج النعسان"، وكانت تقام فيه حفلات الاستقبال لكبار الشخصيات من زوّار "دمشق"

موقع eSyria التقى مختار "حي باب توما" "غبرييل شاهين" بتاريخ 20/12/2009، واستعدنا معه بعضاًَ من الملامح التاريخية والمعاصرة لحارات هذا الحي، وما يعرفه عن أصل تسمياتها، وعن ذلك يقول: «تتداخل الحدود الإدارية لحي "باب توما" مع "حي القيمرية"، ومن أهم حاراته: "القشلة"، "ساحة الدوامنة" التي تقع مقابل كنيسة الأرمن الكاثوليك، "العبّارة" وأخذت اسمها من عبّارة في منطقة "باب كيسان" تعود إلى العهد المملوكي، وأقيمت فوق نبعٍ من المياه، "حارة المسك": نسبة إلى حمّام يحمل نفس الاسم كان من أشهر حمامات "دمشق" القديمة، ويرجع تاريخه إلى القرن السادس الهجري، "حارة الزيتون": نسبةً إلى بستان من شجر الزيتون كان موجوداً في المنطقة خلال القرن السابع عشر، "حارة حنانيا": نسبة إلى كنيسة "القديس حنانيا الرسول" التي تقع في هذه الحارة، وهي أقدم كنائس المنطقة، وهناك أيضاً حارات "جعفر، القصبة، دحديلة، المسبك الجوّاني" و"طالع الفضّة"».

المختار غبرييل شاهين

ومن أشهر شوارع "باب توما": «شارع "أبو النواس" الذي يصل بين "ساحة الدوامنة" و"الكنيسة المريمية"، وامتداد "الشارع المستقيم" بين "المريمية" و"الباب الشرقي"، وشارع "يوحنّا الدمشقي" في حارة "سفل التلة"، و"العيزرية": نسبةً إلى مدرسةٍ تحمل نفس الاسم، ويعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر الميلادي».

وكان سؤالنا عن أصل تسمية "طالع الفضـّة" فرصة للتعرف على نظامٍ فريد في الري كان متبعاً في "دمشق" القديمة حتى خمسينيات القرن الماضي، حيث قال المختار: «كانت مياه "نبع الفيجة" تصل إلى البيوت الكبيرة قديماً بواسطة ما يعرف بالطوالع، والطالع هو عبارة عن حوض من الرخام له فتحة من المنتصف تخرج منها مياه الشرب الصافية، وتصب في عددٍ من الفتحات المتساوية في الاتساع لتتوزع على بيوتٍ معينة تشترك في هذا النظام من الري الذي كان يقتصر على بيوت الأغنياء، أما بقية الناس فيأخذون مياه الشرب من الحنفيات العمومية التي تنتشر في كل حارات "دمشق" القديمة، وفي "حي باب توما" كان هناك طالعان: "الفضّة، والمسك"، وأشهر حنفيات الحي العمومية كانت في حارتي: "العبارة، والقشلة"، واستمر العمل بهذا النظام من الري حتى خمسينيات القرن العشرين».

اليبوت المعلقة على أطراف سور دمشق

ولا تقتصر الملامح الأثرية للحي على سور "دمشق" القديمة بحجارته الضخمة، وبابيه: "باب توما"، والباب الشرقي الذي أعيد تجديده في منتصف القرن العشرين ليأخذ شكله الحالي الأكثر اتساعاً، فكل بقعةٍ في هذا الحي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ، وكلما تم ترميم جزءٍ من أجزائه كشف عن مكنوناتٍ تزيد الباحثين دهشةً لتأخذ مكانها مجدداً في صياغة شكله الحالي، وكأن حي "باب توما" يعيد ترميم ذاته من تلقاء نفسه، وفي أرجائه الفسيحة لا تنقطع الصلاة على مدار اليوم، حيث تعانق أصوات الأذان أجراس الكنائس التي يبلغ عددها اثنتي عشرة كنيسة لكل الطوائف المسيحية في سورية، وبعضها من أمهات كنائس العالم ككنيسة "القديس حنانيا الرسول"، وكنيسة "باب كيسان" أو "القديس يوحنا"، و"الكنيسة "المريمية" لطائفة الروم الأرثوذكس، وبطركية الروم الملكيين الكاثوليك أو "كنيسة سيدة النياح" في حارة "الزيتون". وإلى جانب الكنائس هناك المصليّات أو المساجد الصغيرة ومنها: "البيانية، العريشة، والسادات الصغير".

كما تنتشر في هذا الحي المدارس العريقة التي خرجت العديد من أبناء "دمشق"، وأشهرها "المدرسة الآسية" التي مازالت قائمةً إلى الآن، وهي تابعة للكنيسة "المريمية" وكانت تدرس اللغات العربية والتركية والفرنسية واليونانية، وهناك أيضاًَ "المدرسة البطركية الكاثوليكية" التي أسسها البطريرك "غريغوريوس" سنة 1875م، وغيرها من المدارس التابعة للكنائس والبطركيات.

هكذا يبدو المشهد في باب توما

ويتكئ حي "باب توما" على إرثه التاريخي كنقطة جذبٍ سياحي على مدار العام، وعن ذلك يقول المختار "غبرييل شاهين": «يشهد هذا الحي تدفق السيّاح بشكلٍ كثيف ما شجـّع على تحويل البيوت الكبيرة والجميلة إلى فنادق ومطاعم ومقاهي، ويصل عدد الفنادق الموجودة في "باب توما" إلى عشرة فنادق منها: "دار الياسمين"، "حنانيا"، و"دار الزمان" وهو فندق مكون من ثلاثة بيوت جميلة، ويعتبر من أغلى الفنادق الموجودة في مدينة "دمشق"، وإلى جانب الفنادق هناك الكثير من المطاعم والبارات، وأقدمها البار الموجود في حارة "حنانيا"».

ويعتبر المختار "شاهين" أن "قصر النعسان" أجمل البيوت العربية الباقية في الحي: «تعود ملكيته إلى أبناء "جورج النعسان"، وكانت تقام فيه حفلات الاستقبال لكبار الشخصيات من زوّار "دمشق"».