مجلة (الثقافة) د. جميل صليبا
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
قام خليل مردم بك (1895-1959) والدكتور جميل صليبا (1902-1976) والدكتور كاظم الداغستاني (1898-1985) والدكتور كامل عياد (1901- 1987) بإصدار مجلة (الثقافة) في دمشق في نيسان عام 1933.
أما خليل مردم بك فهو خريج جامعة كمبردج في بريطانيا، درّس الأدب، وتولى وزارة المعارف والصحة عام 1941، ووزارة الخارجية عام 1951، وانتخب رئيسا لمجمع اللغة العربية بدمشق وهو مؤرخ للأدب ومحقق.
خليل مردم بيك
والدكتور جميل صليبا وهو خريج جامعة السوربون في باريس ومتخصص بالآداب، وحصل على إجازة في الحقوق وعلى الدكتوراه في الفلسفة عام 1927، وكان مديرا للتعليم الثانوي وتقلد وظيفة عميد كلية التربية وأستاذ الفلسفة في كلية الآداب بدمشق، وهو عضو في المجمع العلمي العربي.
د. جميل صليبا
والدكتور كاظم الداغستاني الحاصل على إجازة في الحقوق والفلسفة وحصل على الدكتوراه في الآداب والعلوم الاجتماعية لغرفة رئاسة مجلس الوزراء كما كان محافظا لحوران ثم مفتشا إداريا في وزارة الداخلية ثم مديرا لشؤون الحج ثم مديرا عاما للأحوال المدنية.
والدكتور كامل عياد وهو من أصل ليبي تلقى علومه الأولية في حلب وحصل على الدكتوراه من جامعة برلين في ألمانيا عام 1929 في التاريخ وعلم الاجتماع، درّس في جامعة دمشق، وصار عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق.
وكانت مجلة الثقافة مجلة شهرية جامعة تبحث في الأدب والفنون والاجتماع والتاريخ والعلوم والفلسفة وكانت غايتها نشر الثقافة العامة في بلاد الشرق العربي، وخدمة النهضة الفكرية فيها، كما عرفت عن نفسها، وكانت مجلة مصورة، وصدرت بالحجم المتوسط (24×17) سم وكانت ضمن (104) صفحات دون الغلاف الأول والأخير.
وقد استمرت بالصدور لمدة سنة واحدة وتوقفت بعد ذلك وصدر منها عشرة أعداد فقط.
ومما كتب الدكتور جميل صليبا في العدد الأول من المجلة الصادر في نيسان عام 1933 تحت عنوان (الإبداع والاتباع) مايلي:
((في سوريا عدد غير قليل من المتعلمين تلقوا مبادىء الحضارة الحيثة وتغذوا بلبان العلم وتهذبت نفوسهم بالأدب وتوصلوا بعد الملاحظة والتجربة إلى درجة من الثقافة والتفكير قد لا تقل عن مستوى المتعلمين من رجال البلاد الأخرى.
والتقليد والاتباع يجعل الإنسان شبيها بالآلة، ينقل عن غيره أصول التفكير والعمل من غير أن يكون له فيها حرية الانتخاب وإذا سار المرء زمانا على طريقة الاتباع دون الإبداع ونسج حياته بقواعد النقل لا بإحكام العقل، أصابه ركود في الفكر وجمود في العواطف وصار كالآلة يتحرك بغيره لا بنفسه، وإذا صار شبيها بالآلة خسر صفته وانحط إلى أدنى درجات الحيوانية وأي حالة هي أشقى من حالة الركود الفكري والجمود النفسي، أفلا يصبح الإنسان فيها خاليا من الذكريات والأفكار والرغائب؟ كأن نفسه قد خلت من التصور وقلبه قد تجرد من العاطفة أو كأن صور الطبيعة المختلفة قد انقلبت إلى صورة واحدة، وتحولت النفس من حالة الوحي إلى حالة التقليد أو من الحرية إلى التقيد وهي حالة أشبه بالنوم لا بل أشبه بالموت، لأن سكونها كسكون المادة وحركتها كحركة الآلة فلا تتخيل ولا تبدع ولا تحلل ولا تركب بل تقلد أفعال غيرها كما تعيد ذرات الهواء حركات الذرات المجاورة فهي كالمادة خاضعة لقانون الاستمرار لا لقانون الإبداع.
وحالة الاتباع هذه على عكس حالة الإبداع، لأن النفس في الاختراع تكون مسرحا للذكريات والأفكار، فتجري الصور أمام مرآة الشعور كما تجري مياه النهر، وتتسق في تعاقبها كما تتسق النقرات الموسيقية، وتصدر المعاني العلمية والصور الفنية عن عوامل الحياة الكامنة وراء حجاب الشعور كما يفتح الزهر أكمامه بعد دبيب الحياة في ألياف الشجر، يكون الإنسان في هذه الحالة حديد البصر واسع الخيال، يكشف في كل صورة من صور الوجود عن لون جديد، ويرى في كل مادة حياة جديدة، كأن لغته لغة الوحي والإلهام لا لغة القياس والبرهان، لا يحتاج لسوى الحدس في الكشف عن الأمور العلمية، ولا يعرف غير الذوق في إدراك الأمور البديعية، يتوجه إلى فضاء الفكر ويعلو في جو المعقولات ولا يحزن لتبدل الأشياء واختلافها، فالمرئيات والمسموعات كلها ناطقة بما في نفسه والطبيعة لا تتحرك إلا بما يتحرك به قلبه.
على أن المخترع لا يخلو في إبداعه من اتباع المجاري القديمة التي حفرها قبله طائفة المخترعين لأن الهيئة الاجتماعية تؤثر في صور الإبداع كما يؤثر الإقليم في أشكال النبات والحيوان، وللاختراع البديعي أساس اجتماعي كما للاختراع العلمي، لأن الشاعر والموسيقار والعالم والسياسي كلهم يستفيدون من الآثار التي حفظها الماضي في حوض الجماعة المشترك، وهذا ما يمكننا التعبير عنه بقولنا إن الاتباع ضروري للإبداع.
والإبداع يأتي من التركيب فأنت إنما تركب صورة جديدة من عناصر قديمة ولاتتخيل شيئا إلا على أساس صور المواد المحفوظة في نفسك، نعم إنك قد تتخيل حصانا مجنحا ولا وجود للحصان المجنح في الطبيعة إلا أن الحصان والأجنحة موجودة على انفراد ولولا وجودها لما استطعت أن تتخيل صورة مؤلفة منها.
إن الإبداع فنيا كان أو علميا، لا يمكن التوصل إليه إلا إذا اطلع المخترع على القواعد والاصطلاحات القديمة، وهذه الاصطلاحات السابقة لابد للإنسان من اكتسابها حتى تصبح عادة أو طبيعة له فإذا تعودها وصارت حاضرة في ذهنه أمكنه بعد ذلك أن يضم بها شيئا جديدا إلى حظيرة العلم والفن...)).