ممدوح عدوان.. كان ينتظر «الحلم القادم من ليل الموت»



صافيناز كاظم



* لعلي أول من ذكر اسم «الشاعر» ممدوح عدوان في منتديات القاهرة، حاملة دواوينه، متغنية بقصائده، منذ عدت من مهرجان دمشق المسرحي منتصف عام 1969. أقرأ لأصدقائي من أبياته كأني أعرض حالي:



«أنا أعرف كيف تضيق الأقبية الرطبة

كيف يضيق الصدر، وكيف يضيق الشارع

كيف يضيق الوطن الواسع

كيف يزور وجه الوطن الرائع

كيف اضطرتني الأيام،

لأن أهرب من وجه عدوي والضيف

لكني

حتي لو صارت علب الكبريت بيوتا

لو ينخفض السقف ويضحي تحت العتبة

لو ضم رصيف لرصيف،

صار الشارع أضيق من حد السيف

كانت 5/6/1967 خلفنا خنجرًا مسمومًا طعنة لابدة بالظهر، لا نكاد نصدق أننا بقينا بعدها أحياء، ولمدة عامين يا للهول ويا لطول الزمن الذي لا بأس إذا انتظر معه اليائس عاما أو عامين!



* * *



لقائي الأول بممدوح عدوان، الشاعر الشاب، المولود بقرية مصياف السورية 23 نوفمبر 1942، كان في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد ببغداد مارس 1969، لم يكن قد أكمل عامه السادس والعشرين، يعلن عن مقدمه بضحكات مجلجلة، ويغادر بخروج مماثل، وبينهما حالة شعر لا تهدأ ولا تكف عن الإنشاد بمفردات الموت والمقابر بعد التعب والقهر والمذلة. كنت مثله أضحك رغم قولي بيقين: لم يعد في قدرة العربي أن يستمتع. كان المؤتمر كاذبا مزيفا مخادعًا ككل المؤتمرات قبله وبعده، ونبتت صداقتي مع "ممدوح عدوان" باتفاقنا أننا لا نمت إلي المؤتمر بأي صلة. جاءتني دعوة، قبل ترك بغداد والعودة إلي القاهرة، لحضور مهرجان دمشق المسرحي. في دمشق كان نجيب سرور مدعوًا، يجلس علي المنصة في ندوة من الندوات بين آخرين من المتكلمين. جلس ممدوح إلي جواري مع المستمعين، نافد الصبر مثلي، غضبان، محتجًا، وبدأتُ المعارضة، وساندني في الشغب. لوهلة بوغت نجيب سرور لكنه سرعان ما انتفض:



«لأ... بقولكم إيه... هوَّه عشان ما أنا علي المنصة بقيت سلطة وبقيتم ثوار؟ آدي المنصة... وآدي الكرسي... أنا جاي جنبكم أصرّخ!» وأصبحنا ثلاثة من الضاحكين الباكين. كان بكاء نجيب سرور بكاء بدموع حقيقية منهمرة انهمارًا لا يهدأ حتي وهو يقفش قفشاته ويطوح بدعاباته. قلت له يا نجيب هوّن عليك، ما كل هذه الدموع؟ واصل انتحابه: «بحبها بنت الكلب!» من هي يا نجيب؟ يواصل: «مصر يا صافي ناز.. بقي أطلب تأشيرة خروج.. يعطوها في ثواني، ولما كنت أطلب وأنا في موسكو تأشيرة عودة يماطلوني وأقعد سنين مش عارف أرجع مصر؟..» وينخرط أكثر في النشيج. لم أفهم تماما ماذا كان يقصد، لكني قلت له: يا نجيب أنا طلبت من ممدوح عدوان يرتب لي رحلة إلي «تدمر» لأني عاوزة أشوف مدينة زنوبيا اللي خالي «أبو حديد» كتب عنها روايته «زنوبيا ملكة تدمر».. تحب تيجي معانا؟ قال بلهفة: «طبعا طبعا... وهي اسمها تدمر ليه؟ كانت بتدمر إيه؟» ويشرق بالضحك بين النشيج والنحيب وانسياب أنهار الدموع.



جاء "ممدوح" إلي قاعة الانتظار بالفندق ليعلننا بأن السيارة والسائق بالباب نحو «تدمر». قال نجيب: «تدمر... تدمر.. آهي أحسن م العقدة!» لم نكن ندرك بالتدقيق المسافة بين دمشق وتدمر، كان التصور عندي أنها بعد ساعتين أو أكثر بنصف ساعة. استراح نجيب سرور إلي جوار السائق يتمتع بوليمة بكائه يسح فيها بلا توقف، ولا نقاطعه إلا بتزويده بالمناديل الورقية لتجفيف الزائد علي حد البلل المحتمل. ممدوح يسألني: تحبي تسمعي شعر؟ وقبل إجابتي يكون الشعر سيالا ينتقيه من ديوانه الأول، «الظل الأخضر»، الذي صدر عام 1967، «حولي عينيك، إن الحزن يسري منهما نحوي كتيار، ومن دفقاته يهمي الشقاء...» أصغي وبيدي نسخة من الديوان المطبوع: «كان لي طفل بعمر الزنبقة، يرضع الريح ويغفو في المطر، ذات يوم..، هاجت الريح وناشت زورقه، لم يكن يخشي الخطر، ظن أن الريح لن تقوي عليه، إنها لن تغرقه، عانق الموج فلم أبصر يديه، رحت أجري لاهثا كي ألحقه، رحت أجري...، كان ظل الموت مرميا أمامي، خفت أن أعثر... أو أن أسبقه». كل كلامك عن الموت يا ممدوح؟ يدخل نجيب في الخط وتحبكه النكتة من بين زخات بكائه: «ليه كده بس يا سي ممدوح إنت عاوز تنكد علينا؟»



ترجنا الضحكات، ونكتشف أن الساعات قد مرّت علينا، و«تدمر» لم تزل بعيدة. «إيه الحكاية؟ هي فين تدمر دي يا جماعة؟». يرد السائق: لابد من استراحة في فندق المدينة القادمة ثم نواصل غدًا من الصباح. يصخب نجيب ويحتج: «أنا عندي مواعيد... قلت تعال يا نجيب تدمر.. أنا قلت طيب... فاكرها زي القاهرة وحلوان... ده كده احنا رايحين أسوان!» أقول: من أجل أن تبكي براحتك يا نجيب من دون إزعاج. يشير "ممدوح" إلي قصيدته، «روي عن الخنساء»، ويقول: كتبتها سنة 1965. أبدأ بالقراءة: «تبح حناجر النداب عن ندم بعاشوراء، يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه، ويملأ جوفه المسعور بالحمأ، ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ، وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا، تؤذن للصلاح وللفلاح، ولا يمر الصوت في الصحراء، ينبه غافلا يقضي، ولا يدري بأن الفقر، أن الغدر في الملأ....» حتي أصل إلي: «فمرَّ جنود هولاكو علي أهل القصور، وخلفوا جيلا من اللقطاء، جميع رجالنا ماتوا...، وهم يتلون آيات من الإسراء....» استعجلت النوح يا ممدوح أم أنها كانت الرؤية؟ «يذكرني غروب الشمس بالقتلي، بمن من ليلنا انطفأوا، وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل، تأبي الشمس أن تأتي مع الريح....»



كانت «تدمر» عندما رأيناها تغطيها أضواء الشمس قبل مغيبها، تقدم منا مصوِّر: ما رأيكم في صورة تذكارية؟ الضوء غير كاف لن تنجح المحاولة. جرّبنا نواجه آلة التصوير، خطر لنا ونحن علي أرض ساحة أطلال مسرح قديم أن نختار أدوارًا نتقمصها. قال نجيب سرور: أنا قائد يتربص بالأعداء، وقال ممدوح: وأنا؟ قلت: ابن الملكة زنوبيا. ثم تساءلت: هل كان لها ولد؟ قال: أكون! قلت: وأنا الجوقة التي تراقب في صمت حتي تنفجر. لدهشتنا ظهرت الصور بنتيجة واضحة، واستطعت الاحتفاظ بها منذ ذلك التاريخ 19/5/1969 حتي الآن. أنا «الجوقة» الباقية بعدكما علي قيد الحياة يا نجيب سرور ويا ممدوح عدوان، فمن يا تري المفجوع؟



* * *



عدت إلي "القاهرة" أحكي "لأحمد بهاء الدين"، وصديقنا السفير السوري "سامي الدروبي" عن ممدوح عدوان، الشاعر الذي جعل الموت مدفأة تبث الإيناس والألفة. يضحكان: لم نسمع بهذا الاسم من قبل... أنت لك تقاليع. أصر علي إنصاتهما ليسمعا، «وتخضر المقابر»:



كل أقوالي صارت صدئة



ودروبي لم يعد فيها سوي تلك الصوي المنطفئة



أمطر الخوف عليها



فأعاق الأمنيات البطرة



كل شيء مات إلا الرهبة المختبئة



وأنا الظامئ تدنيه أمانيه من البحر،



تسقيه فتحيي ظمأه



كلما جابهني الضوء ارتمت في القلب ذكري مجزرة



واشرأب العار ظلا



شد خلفي مئزره



غير أني قادم رغم حصار الأوبئة



لم أتعرف عليك يا ممدوح وأنت عجوز في ردهات مؤتمرات المجلس الأعلي للثقافة، فصديقي هو الشاعر الشاب الذي لم يزل وجهه «زاهيا كاللؤلؤة» وقد ذهب إلي صاحبه «الموت»، لكنه لم يمت.

عودة