الصورة غير متوفرة

موقع جريدة الثورة

علي سعادة

"خيري الذهبي" في "صبوات ياسين" الزمن المتعدد والمتداخل



حين انتهيت من قراءة الرواية الصادرة عن داري "كنعان والخيال " رحت أدندن مطلع أغنية يقول : «لا تلعب بالنار بتحرق صابيعك».

وعدت إلى أيام الطفولة البائسة حين كنا نعيش في بيت ترابي ، سقفه من الخشب وسطحه من الطين ، وكنا نجتمع حول موقد النار المحفور في أرض البيت ، لنتدفأ على نيران الحطب الذي تحضره أمي ، ويشعله أبي ، وكان محظورا علينا إشعال النار خوفا من حريق يلتهم البيت ومن فيه وما فيه ، وكبرنا وفي داخل كل منا رغبة جامحة لرؤية الدخان المتصاعد من أي شيء يحترق !

وكثيرا ما أصرخ عندما يصدمني الفساد والفاسدون : «ما أحوجنا إلى الكبريت والمكانس ! ».

"صبوات ياسين" هي صبوات "خيري الذهبي" ، وصبوات كل مثقف حر ، فأي مثقف لا يحلم بمنع الانهيار الداخلي ؟ ومن لا يتمنى وقف انقسامه ؟ والى متى يعيش المثقف بوجوه مستعارة لإخفاء وجهه الأصيل ؟ أسئلة تطرحها الرواية وتترك الأجوبة للقراء والكتّاب، وعلى كل منهم أن يختار ما يناسبه من خيارات .‏

أول ما يستوقفك في الرواية هو جرأتها ، فهي تطرح مأساة الإنسان العربي الذي يعيش انفصاماً حادا يعصف به ويمزقه إلى شخصيات متناقضة ، تتصارع فيما بينها ، كنتيجة منطقية لغياب الحرية وحضور القمع بوجوهه المتعددة. فعندما لا يستطيع "ياسين" الروائي أن يكتب قناعاته بعيدا عن الخوف ، يضطر إلى الكتابة بوجهين : وجه سري حقيقي، ووجه زائف معلن ، وهنا تبدأ المعركة بين الوجهين ، ولا تنتهي نهاية واضحة ، فلا "ياسين" الحقيقي يهزم "ياسين" الزائف ولا العكس ، كأن الروائي يريد أن يقول أو هكذا فهمت : وما زالت المعارك مستمرة حتى ساعة نهاية الرواية ّ! إنها مسيرة البشر ، منذ ابتدأت الحياة وحتى يحين موعد الرحيل ، ففي كل زمان ومكان ، على الإنسان أن يختار بين قدرين : إما أن يكون سيد نفسه ، حرا وصادقا ونظيفا ، مع استعداده للعيش فقيرا ومهشما ومطاردا ، أو أن يكون عبدا لأسياده ، وله ما يجود به الأسياد على العبيد ما داموا عبيدا ، ولا مكان لحل وسط في هذه الدرب الأبدية ! .

الأمر الثاني الذي يستوقفك كثيرا هو وجود عالمين في الرواية : عالم واقعي مرسوم بدقة متناهية ، وعالم خيالي لا متناه ، موغل في الأسطورة ، ولكنه مقنع جدا بحيث تعتقد وأنت تقرأ عنه أنه موجود في مكان قريب منك ، وأن بإمكانك أن تذهب إليه متى شئت ، وهذه الرواية أقرب إلى فيلم سينمائي لا يمكنك أن تنقطع عن متابعته حتى ينتهي إنه قصة حياة "ياسين الأرفعي" ، و"ياسين" الآخر روائي يطلب إليه أن يكتب سيرة "الملك الظاهر " الذي كان حلم كل حكام ومحكومي العالم الإسلامي ، كان حلم الصبيان ذوي الطموح لوضع بصمتهم على التاريخ ، ولم لا يكون ، وهو الصبي القادم من المجهول ، لا عائلة تحميه ، ولا حزب يدعمه ولا طائفة تحتضنه ، ومع ذلك يصل إلى مرتبة السلطان ، ثم لا يكتفي بهذا بل يقنع المثقفين بتأليف كتاب يصبح كتاب كل بيت ، كتاب يتحدث عن أمة لا عمل لها إلا أن تنتظره ، عن تاريخ لا هم له إلا أن يعد له كل ما سيمكنه من السلطنة وبين كتابة سيرة الملك ، وسيرة "ياسين الرافعي" ، وسيرة "مولانا عنقاء الزمان " تمضي أحداث الفلم ، الرواية ، في أجواء مليئة بالخوف والرعب والتشظي ، وتشعر أنك أمام روايات لا رواية ، وأمام أزمنة متعددة ومتداخلة إلى حد الضياع فلا تعلم عن أي زمن وأي بطل يتحدث الروائي ،أنها لعبة فنيه ماهرة ، فكما يفعل الكتاب بأبطالهم ، عندما يجعلونهم يسرفون في السكر ليقولوا ما يودون قوله تحت تأثير الكحول.

هكذا فعل "الذهبي" ، إذ راح يدور بأبطاله وبنا في الأزمنة والأمكنة ، حتى أصابهم وأصابنا الدوار ، فلم نعد نعلم عمن يتحدث ؟ وأية سيرة يكتب ؟ وأي ياسين يتقمص؟ .

أعتقد أن أفضل فصل في صبوات "ياسين" هو الفصل الخاص بليلى وجزيرتها وأهلها ، وفيه دعوة إلى العودة إلى الجذور الأولى ، والينابيع الأصفى ، دعوة إلى تحريم القتل ، والعيش " عيش العصفورة مع العصفور" قالت "ليلى" له : «منذ علمتم أنفسكم الكتابة لم تفعلوا إلا أن تكتبوا وصايا الأجداد للأبناء والأحفاد في كيف تذلون أنفسكم في المرأة ، وكيف تذلون المرأة فيكم ... صدمه قولها وحين غادرته للعمل فكر حائرا : أتستطيع مثل هذه الأمية أن تقول هذا الملخص للحياة ؟» .

ولكي لا أطيل ، سألخص قراءتي بقليل من الأسطر : صبوات "ياسين" رواية عربية جريئة لروائي عربي جريء ، لا تسلم نفسها لقارئها بسهولة ، وتغوص في أعماق التاريخ لتعود إلى أيامنا البائسة ، وتجسد واقع المثقف العربي الرازح تحت وطأة الخزف والانفصام والتهميش ، إذا لم يكن مدجنا ومطيعا وتحت الطلب ، إنهما " أمران أحلاهما مر " وقد تمكن "الذهبي" من إيصال رسالته "المشفرة " أحيانا و"المجانية" أحيانا أخرى ، بلغة يغلب عليها السرد والإخبار وتقل فيها العناية بالكلمة الشعرية المترفة ، ولكنها لغة جميلة لا تشكو من الإطالة ، ولا من البطالة .

إنها رواية رشيقة في الشكل ، مرهقة في المضمون ، وفيها الكثير من الشخصيات التي يمكن الحديث عنها كأسيمة ، ودلال ، وخال "ياسين" ... ، وإن كان لا بد من ملاحظات فأولها تكرار اسم "ياسين" إلى درجة مملة ، وطغيان الأجواء السينمائية ، وإرباك القارئ العادي بعدم تحديد زمن الرواية رغم الإشارات الدالة ، ولا أجد ما أختم به إلا ما قالته " دلال " ل"ياسين" ، لأقوله ل"خيري" : «أنت آخر من نتكل عليه ...إكراما لكل الأيام الماضية الجميلة لا تسقط .... لا تعبث بالتاريخ .... "ياسين" أنا اعرف ما يجرونك إليه ، أن تكون الشاهد من الماضي ، والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون .... "ياسين" لا تسرق حلم الغد من أبنائنا ، أرجوك ... يجب أن ألقاك» .‏

عودة