قبل رحيل الذاكرة... نبش في ذاكرتنا

«كان يريد أن يجري تعديلاً على القصة القديمة... حكاية المليونير الذي يبحث، دون جدوى ، عن السعادة والعواطف الحقيقية، على تلك العبارة التي كان يرددها الحاج ، القناعة وحدها تصنع السعادة ، على تلك الكلاسيكيات التي يحتقرها ويعتبرها ضعفاً.

ولكن القصة أبت إلا أن تتكرر.. ولعب "منير" فيها دور البطل بجداره واستحقاق»..

عبر هذا المقطع في الصفحة قبل الأخيرة ، تأخذ الأديبة "لمى إسماعيل" في روايتها "قبل رحيل الذاكرة" إلى ذاكرة جمعية تعرف قصة الطموح والطمع ، قصة الغرور والقسوة ، والصعود على أشلاء الجميع في سبيل تحقيق النوازع الشخصية.

"منير" الشاب الفقير الطموح ، يستطيع أن يغتنم فرص الحظ الجيد الذي واكب مسيرة حياته ليحقق طموحاته ، ويلبي رغباته ، لكنه يعيش حالة التناقص الشرقي "المتداول" بين الذكور حيث الرغبة في النساء الجميلات "الفاسقات" كعشيقات ، فيما الزوجة يجب أن تكون ذات أخلاق وعفة وأماً بلا ماضي ، ولا حاضر إلا ما يبنى مع زوجها... الرجل الغني ، الفاحش الثراء ، المتسلط...

وهكذا تمضي الزوجة "هناء" أيامها وهي تستعيد تاريخها كله كأنثى تعيش في هذا المكان حيث العيب والناس كالسيف المسلط على روحها وتصرفاتها لتغدو حبيسة مجموعة متنوعة من القيم والأخلاق التي يحق للرجل أن يخترقها ، بل ويمزقها عندما يكون قوياً وغنياً ، هناء تعجز عن حماية أبنائها والدفاع عن نفسها، وعن حقوقها ، فتصبح أسيرة الخوف والعجز والتسلط الزوجي والاجتماعي.

"منير" و"هناء" وجهان لعملة واحدة في النهاية حيث الانكسار هو المحصلة الطبيعية لحياتهما المشتركة والمنفردة أيضاً... فهو يكتشف أن المال والقوة لا يدومان وهما من صنعاه ولا سعادة في ذلك. وهي تكتشف أنها خسرت الحلم والأمل، وأن الضعف وافق حياتها كلها على الرغم من بصيص الأمل مع الحب الجديد، أو المشاعر الجديدة.

استخدمت الكاتبة عدة أساليب في السرد حيث الراوي بصوته المسيطر المطلع على كل شيء يتداخل مع "أنا" كل من "منير" و"هناء" في بوحهما عن حياتها ومشاعرهما ، أو رغباتهما... لتتداخل الأصوات في نسيج البنية الروائية لإضاءة العالم الخارجي الذي يحيط بالشخصيات ، كما إضاءة العالم الداخلي لهاتين الشخصيتين الرئيسيتين... فيما تبدو بقية الشخصيات محطات تساهم في تلوين اللوحة الكلية التي ترسمها الرواية عن الجشع والسقوط والمشاعر الإنسانية المقموعة، وعن التسلط والجبروت القاهر والمسبب للفساد في النهاية.

"قبل رحيل الذاكرة" رواية تتوخى كاتبتها البساطة والشاعرية في السرد والكشف والنبش في دواخل شخصياتها، محاولة الغوص عميقاً في دواخل الشخصيات بغية الكشف في النهاية،عن البنية الاجتماعية ككل.

ويبقى السؤال مشروعاً كما تطرحه الرواية: هل يتعادل الفقر الشديد مع الثراء الفاحش؟ لماذا يتساوى كل شيء في النهاية .

مجلة جهينة



قبل رحيل الذاكرة

لغة بسيطة عميقة الدلالات

هل يتعادل الفقر الشديد مع الثراء الفاحش؟ لماذا يتساوى كل شيء في النهاية وتأتي نتيجة كل حساباته الصفر؟ هل الصفر اقوى من جميع الارقام؟ ام تراه يعادلها كلها؟ اين تختبئ الاجابات؟

بهذه الاسئلة التي يطرحها بطل رواية "لمى اسماعيل" قبل رحيل الذاكرة عرّفت الكاتبة نصفها على الغلاف الاخيرة للكتاب وهذه الاسئلة تلخص حياة كل شخوص عمل ادبي غاب الراوي بين اسطره حيث نلج بداية عيادة الطب النفسي مع الشخصية الانثوية الرئيســية المصابة بمرض اضطراب الذاكرة على حد تشخيص طبيبها ويتصاعد النص ليعود بنا الى تفاصيل نشأة فتاة خجولة منطوية لم تعرف دفء العائلة في صغرها فهي رابعة فتاة تولد لوالدين كان يتوقعانها صبيا وخاب التوقع فعاشت المولودة على هامش الاهتمام تستوطن ذاتا تهرب من التعرف الى خفايا وتلتقي في بيت احدى صديقاتها برجل ثري يجد فيها ضالته فيتزوجها لتنجب له ابنة ستصبح صورة عن ابيها العاشق للمال وولدا يعيش المثلية الجنسية التي تدفعه للهجرة الى اميركا بعد محاولة انتحار فاشلة هربا من زواج كان سيفرضه عليه ابوه المفتون بالنساء.

زير النساء هذا كدّ ونصب فحقق ثروة كبيرة جعلته يكتسب لقب بيك.

"منير بيك" هو الشخصية التي يدور حولها الكتاب فنعرف تفاصيل حياة افراد اسرته الصغيرة والكبيرة بناء على علاقة ذلك بحياته اليومية والامر عينه ينسحب على اصدقائه ومعارفه.

في روايتها تدخلنا "لمى اسماعيل" الى الوسط العائلي والعملي ل"منير بيك" وتنقلنا عبر الوقائع الى الاحداث الجارية أو بالتفاتات من هذا الشخص او ذاك الى ماض يبعد ويقرب حسب الحاجة لاستعماله في توضيح معالم الشخصية.

ويبقى العمل مفتوحا في نهايته على التوقعات هل هزم "منير بيك" الحياة ام هزمته هل ما رددته زوجته في الصفحتين الاخيرتين كان حشرجة جنون وضياع ام موت: عقرب الساعة توقف وصرخ الكون.

لا ندري كيف صرخ الكون! ولماذا!

الكتابة الروائية طارئة وهي دخلت الادب العربي من باب انفتاحه على الاعمال الروائية الغربية وقد عرف ادبـنا الحديث روائيين كبارا من امثال "عبد الرحمن منيف" و"نجيب محفوظ" و"حنا مينا" وسواهم العشرات كما عرف ايضا مئات المحاولات الناجحة حينا والفاشلة احيانا اخرى حاله في هذا المجال حال الشعر الذي يشكل واحدا مـن اعرق المصادر لحفظ اللغة وتقعيدها وقد اتاح الشعر الحديث لمئات الشبان استسهال الكتابة الشعرية وان عانى بعض الشعراء مــن جهل شبه كامل لجماليات اللــغة.

وفي الكتابة الروائية تمكن جيل الكتاب المعاصرين من كتابة نصوص على هو اهم بعد ان انتهى عصر الرواية الكلاسيكية المبنية على مقدمة تتواتر بعدها الأحداث مرتفعة بالنص الدرامي لتوصلنا إلى الحبكة او العقدة ثم تنساب الكتابة لتحملنا الى النهاية السعيدة او المفجعة ولكنها نهاية.

"لمى اسماعيل" التي انهت دراسة الأدب الفرنسي وترجمت كتابين اصدرت روايتها الاول: قبل رحيل الذاكرة بموقف حيادي لكننا لا نعلم اين موقعها من النص خصوصا مع غياب الراوي كما اشرنا سابقا او لعلها تركت ابطالها رواة كل يعرف بشخصيته على هواه ويخبرنا عما تأثرت به حياته جراء علاقته ب"منير بيك".

اشخاص الرواية نماذج نلتقيها كل يوم في الشارع في الحي في العائلة وفي ذواتنا لغتهم بسيطة سلسلة افكارهم سطحية حينا وتقارب فلسفة الحياة حينا اخر وفي احيان اخرى تضع الكاتبة بعض الحكم على ألسنتهم :

1- الآن بدأ يفهم ان السر "سر السعادة" لا يكمن في المال ولا في المركز بل في القدرة على قهر التعود والاحتفاظ بالنظرة الاولى الى الاشياء اطول فترة ممكنة .

2- من يهمل اغلاق الابواب والنوافذ يسهل التسلل اليه وأضعافه.

3- اذا لم نحسن وضع حدود لكل شيء حتى لأنفسنا علينا ان نتوقع اسوأ العواقب.

4- ليس المهم ان نمتلك صفات مميزة بل ان نجد من يبحث عن هذه الصفات ويريدها.

تأتي الحكم متوافقة مع نمط الشخصية التي تنطلق بها وقد حرصت الكاتبة على اظهار التمايز بين الزوج والزوجة باعتماد الحكم السلطوي اي تسلط الرجل على المرأة في مجتمعنا ولغة الخضوع بما تطلقه المرأة من احكام وهي الخاضعة منذ استبدال الإلهة الانثى بالإله الذكر.

يبقى القول ان المغامرة بالكتابة عمل يحسد عليه من يتجشم هذه المهمة وهنا تبدو "لمى اسماعيل" قد اجتازت بجمالية الاسلوب الابتعاد عن اللغة السهلة باعتمادها اللغة البسيطة العميقة الدلالات وهذا لا يقبض الا لمن تعمق بلغة الاباء والاجداد ونسي ما قرأه ليجد اسلوبا يميزه عن الاخرين ادباء عربا كانوا ام اجانب وهذا ما سعت اليه "لمى اسماعيل" ونجحت.

رواية "لمى اسماعيل" 232 صفحة من القطع الوسط صادرة بموافقة اتحاد الكتاب العرب .

صمم الغلاف الفنان "محمد الوهيبي".

وسيم قات

عودة