نازك نمرة

خلقها "حسن حميد" لتنتفخ وتتطور على أجزاء من أمكنة لا مثيل لها على وجه البسيطة، عنق زجاجة فيه نبت وزرع ودفء وماء واختناق ، حكاية نمت في غفلة من الزمان ومن أهل الزمان ، وكاد الجشع المتلبس بالحلم يحيط بأعناق فئات وأقاليم فتمسخهم أو تنسخهم ، وعلى الرغم من محاولات تلك الفئة خلق واقع مدروس على حساب تلك الجماعات الوادعة الآمنة الأصيلة، إلا أن مجريات الأحداث الحبلى بكل المفاجأت تناولتها رواية "جسر بنات يعقوب" لمؤلفها "حسن حميد".

فتعامل مع دقائق وتفاصيل من حياة "يعقوب" وبناته ، سايرهم ورافقهم في المواقف الصعبة المدعاة ، ولمح للمطبات في أحلام شخوص الرواية وأيامهم ، وساهم في تمهيد السبيل الصعب اللولبي لتحقيق خطوات ملموسة، وبكل الصبر والأناة معيداً أو حافظاً أو مفنداً لمطالعات متشعبة متضاربة تارة ومتوافقة أحياناً أخرى ، اقتبس الكثير من النصوص الدينية من الكتب السماوية كالتوراة والأناجيل والقصص القرآني ، وجعل من روايته ميداناً تصول شخوصه فيه وتحوروتتمحور ، مستعرضاً كفاءته وثقافته وقدراته وفكره "كان حنا ابناً لعجوزين تقدم بهما العمر كثيراً ، وهما يرجوان الله كثيراً أن يمنّ عليهما بمن يقوم على شيخوختهما في قادم الأيام .. . . " صفحة 17 من الرواية الطبعة الأولى ، ثم مزج ما جاء في القرآن عن قصة مشابهة أو متقاربة على لسان "زكريا" «قال رب إني يكون لي غلام وقد بلغت من الكبر عتيا».

ربما سبق "حسن حميد" كثيرون في لملمة حكاية تاريخية أو متخيلة بإضافة تذييل أو تعقيب أو توضيح أو حاشية. لكن "حسن حميد" جمع كل ما استخدم شرقاً وغرباً ، قديماً وحديثاً في روايته "جسر بنات يعقوب" ، رواية شدتنا كثيراً في أوائلها وأواسطها ، تجعلك تقرأ بنهم وتواصل كي تصل إلى نتيجة كل التفاعلات وحاجات الشخوص لتتواءم وتتلاقى وتنسجم لتحقيق غاية يعقوب والد البنات الثلاث ، لكننا نرى أن السارد كان يتدخل أحيانا في تقرير حياة الشخوص فيعطي أحكاماً مسبقة ، تأتي على هيئة أحكام من حكماء ومجربين ، وهذا يحسب على النص الإبداعي ، ويعطي هدية مجانية للقارئ لتقدير ما سيؤول إليه الأمر مضعفاً روح المفاجأة ، ومخالفاً سنن الحداثة " لكن الدنيا عبوس حرون لاتدوم على حال" صفحة 24 من الرواية.

وبالمقابل نحسب ل"حسن حميد" خياله المحلق في تسامي وكأنه بلا حدود مع قدرته على الصبر لدرجة الإعجاز حتى تحين لحظة عرض التفاصيل لتدل على توحده مع المواقف وإخلاصه في عمله " ولم يدر الاثنان، لا بديعة ولا زوجها كيف تواعدا أن يتودعا قرب ذلك الغدير المسيج بنباتات الجرجير وأعواد القصب ، وأشجار الصفصاف الحانية، ومشاتل الطرفا الكثيفة، فتسابقا، خطوة خطوة، وابتسامة تستولد ابتسامة، وأحاديث تتناوب مع أحاديث إلى أن وصلا إلى الغدير، فارتمى أحدهما قرب الآخر بصخب طفولي جميل على مرج من النجيل الأخضر، وماجا معاً فوق الأعشاب الطرية ، فتلامست الأيدي والأقدام وتعانقت الشفاه" صفحة 26.

وتداهمني هاجس قناعة وأنا أقرأ الرواية أو حتى بعد الانتهاء من قراءتها ، بأن "حسن حميد" قصد أن يوقف حركة العالم ونشاطه ليستمعوا لحكاية "جسر بنات يعقوب" وليقرأوها ، ولعب على وتر الوعي والتراث والعمق التاريخي حسبما أراد ، فالجهد الكبير والعمل الشاق والساعات الطوال التي أمضاها "حميد" في تجميع هذه الحكاية ولملمتها من أوراقها المهترئة لهو عمل إبداعي فريد ، ولا شك أنها أرهقته وأقضت مضجعه، وظل مرافقاً للسارد يرافقه أو يتوحد معه على مدى السنوات الطوال يحمل أوراقه ، يسطر ما سمع وما جرى ، ويسود الصفحات الطوال أو يقلب ما وقع منها بين يديه، ولشدة حرصه على تأكيد مواضيع معينة يعتبرها دماء تجري باستمرار في جسد الرواية فإنه يعيد ذكر أسماء بعضها ويكررها دون أن يكون بإمكاننا الجزم إن كان ذلك عمداً أو سهواً.

مكانة المكان في الرواية

ودقائق وصف المكان هي إحدي أهم مميزات "حسن حميد" في هذه الرواية عل الأقل.

ولأن الكثير من المواقف في الرواية متخيلة تتطلب دراسات نفسية لأن الوصف والأمنيات بعيدة عن عالم الممكن، وهنا نشير إلى أثر النظرية النفسية "الفرويدية" في دراسة الظروف المحيطة بالكاتب أو السارد وحاجة المكان والزمان إلى إشغال النفس والعقل ببواطن أمور غير ملموسة ولا مثبتة ، بل تتطلب تفهم الموقف والأهداف وما وراء السطور وما يين الكلمات من نوازع وعوالم خفية تؤثر على الشخوص والأحداث ويجب أن نعترف أن رواية حميد هي مجال خصب للنظريات النقدية في معظمها وخاصة النظرية التاريخية والنفسية والواقعية، وحتى الرومانسية، وحتى البنيوية والتحليلية والتركيبية، وبخبرته الواسعة في الكتابة وسيطرة هاجس الكتابة عليه في حياته الطويلة ملتزماً ومواظباً جعل روايته تتلون وتتزين وتجمع معظم مفاهيم المدارس النقدية الحديثة وتمثيلاتها، فدراية حسن حميد وخبرته الطويلة في كتابة القصة والرواية والنقد ومعظم المواضيع الأدبية والسياسية والتراثية جعلته شديد الحرص على توصيل أقصى ما يستطيع من مدخلات وإشارات وترميزات وتفاصيل عما يريد الناس أن يحفظوا عنه أو يعرفونه.

ونذوه إلى أن "حسن حميد" استعمل الكلمات المحكية وربما العامية في مواقع كثيرة من الرواية ، وقد يبدو فهم ما أراده صعباً على غير أهل الشام وفلسطين .

لكننا نؤكد أن إخلاص "حميد" في هذا العمل الأدبي الفني، والانعماس فيه لدرجة التوحد ، لهو إنجاز حسن من "حسن حميد" ، فالأجواء التي أفلح المؤلف في تخيلها تنقلنا نحن القراء إلى حيث الزمان والمكان التي تتنامى فيه حكاية "جسر بنات يعقوب" ، ويتمنى كل قارئ أثناء انغماسه بتفاصيل أحداث الرواية المشاركة والإدلاء برأيه، وبدلاً من أن نحاول الإمساك بدفة قيادة السرد ومسايرته، نجد انفسنا منقادين إلى حيث ينقلنا السارد بعقلانيته وثقافته وشباكه إلى القرن الرابع عشر أو الخامس عشر لنشاركه تفاصيل حياة مخلوقات قصته، وتصدمنا المفاجآت أكثر بكثير مما يبدو بين سطور الكتابة المكرسة ، وأكثر مما أثر على نفسيات شخوص الأحداث الغريبة والتي تجعلنا نكاد نصدق مجرياتها الخوارق فيها ، مع أننا ندرك قبل البدء بقراءتها أنها من نسج خيال إنسان معاصر في القرن الواحد والعشرين ، حيث وسائل الاتصال والرفاه والجريمة والحب والحروب والثراء والغذاء تسابق حدود قدرات المرء على وصفها، ففي اعتراف مرجانة الأول تقول: "أحسست بتلاحم الأكف والأصابع والأذرع والخدود والأنفاس والشفاه والشعر، كان كالحمى ، وكنت في هيجان ، وشعرت وإياه بأن الدنيا وسعادتها متختزنة بهذه الوقفة، خلف حاكورة الدار، وقرب السياح، وبعيداً عن الناس والكلام والطعام والشراب، بعيداً حتى عن الهواء" صفحة 55 من الرواية نعلم أن كل تلك المبالغات لا يمكن أن تكون حقيقية أو ربما غير ممكنة، لكن أسلوب الكاتب المتصاعد والمتنامي مع حاجة الإلحاح التي يتطلبها الموقف تجعله يستعمل لغة مطولة، ومرادفات ومعاني متقاربة لتوصل شدة التفاعل الذي يحسه السارد بأمانة مع نفسه وموقفه.

أما الأسلوب الجديد الذي أدخله "حسن حميد" على نمط الرواية المحدّثة فهي كثرة استعمال الحواشي والتذييلات والاعترافات في عناوين منفصلة ، لتؤكد للقارئ مرة أخرى تركيز الكاتب على المواضيع التي يريدها أن ترسخ في أذهاننا حتى يشتد تواصلنا معه، وتكون أساساً صلباً لتحمل صدمة النهايات، وربما أراد مثل تلك العناوين الفرعية لفت نظر القارئ لإبقائه ماسكاً بحبل القص والمتابعة بعيداً عن الملل بسبب الإطالة التي كان يلجأ كاتبنا حميد إليها ، وفي أماكن عدة من الرواية.

ثم إن تلك العناوين الفرعية تشكل أعمدة قوة لتماسك روايته التي أرادها "حسن حميد" معقدة وفي نفس الوقت جاذبة ، تلك التفاصيل الكثيرة المنفصلة عن تتابع الفصول العادية ستكون عوناً لكل منتج أو مخرج سينمائي أو مسرحي أن يجسد القصة دون عناء ، فعمد حميد إلى تيسير الأمر ليجد كل ما يلزمه لإظهار عمل فني كاملاً غير منقوص. والكاتب كان موفقاً في إقناعنا بوجهات نظره في الحياة التي تخيلها ، وفي الحب والعلاقات عبر تداخل فلسفته ضمن حبكة القص فلا يفرض آراءه بطريقة تعليمية أو توجيهية أو مقحمة أو إخبارية، ففي اعتراف مرجانة الآخر تقول: "لكنني لم ألمح وجه برهومة، ولا روح برهومة، أنفاسهم كانت مختلفة جدا،، أجل الأنفاس، هي من يميز الواحد من الآخر، الأنفاس هي كل شيء، كل شيء " صفحة 56.

وسواء قصد الأنفاس اللاهبة او الناطقة او الهامسة أو المعطرة أو الكريهة فكل ما يعبر عنه الإنسان لا بد أن ترافقه الأنفاس.

أخيراً لا بد من كلمة منصفة تحسب ل"حسن حميد" ، فخياله الجامح يكشف لنا عن مدى عمق ثقافته وتنوعها، بل وعلى قدرته على الخلق والإبداع ، " فعلى الرواية أن تعدل من الأطر الخيالية وتحورها، بتنظيم أوساط شاملة منسجمة مع الأصول البعيدة والنهايات التي يمكن التكهن بها، بحيث تحافظ على اختلافها عن الاحتلام، أو أية طريقة أخرى لتحقيق الإشباع" وكأن "حسن حميد" يزرع ويؤسس لخلوده ، وخلود الإنسان والمكان وربما لمدينة فاضلة في رأسه ، وهذا يضع على كاهل كاتب الرواية حملاً ثقيلاً ، وتحدياً جديداً ليتفوق على نفسه في عمل لاحق ، وبعد فإننا ننتظر جديد حسن حميد أملاً أن يكون صعوداً.

عودة