سهيلة اسماعيل



- ليس من الضروري أن يكون العنوان مفتاحاً دلالياً مباشراً لرواية"قرابين لمزارات بعيدة", للكاتب "ظافر النجار" الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب .

ولكن إذا قرأنا الرواية قراءة متفحصة سنكتشف أن العنوان يقترب من تصرفات الشخصيات الأكثر ضعفاً في الرواية, وهي غير فاعلة, أو بالأحرى ليست شخصيات محورية, وحتى في هذا الحالة يعتمد الكاتب على الترميز.‏

- تبدأ الرواية بورقة استدعاء للشخصية الرئيسة فيها الكولونيل "عماد", وهو رجل في الخمسين من عمره "على أبواب التقاعد", وتنتهي بانتحاره ما يؤكد التماسك بين البداية والنهاية, وبين هاتين النقطتين, نحن لسنا مع الكولونيل فقط الذي تغلب عليه صفة اللامبالي والمشمئز من حياته كضابط, لم يبق له في هذه الدنيا إلا الحلم بمزرعة صغيرة في قريته, يقضي فيها ماتبقى له من أيام إننا مع شخصيات أخرى لها حياتها ومصيرها ومواقفها, لكنها ترتبط ارتباطاً مباشراً حيناً وغير مباشر حيناً آخر مع الكولونيل, وكلها بالمجمل تعكس حياة مجتمع بأكمله يعيش فترة تغييرات وتقلبات كثيرة.

فابنة الكولونيل الوحيدة "وفاء" على وشك الطلاق من زوجها "سومر" بعد زواج لم يدم سوى سنتين وبضعة أشهر لأنه جاء كردة فعل على علاقة حب بين وفاء المغرمة بمظاهر الترف في الحياة وابن عمها "نادر" طالب الفلسفة الفقير, القلق, الغامض, الآتي من القرية والذي يريد تغيير العالم كما كانت تقول له "وفاء" وحتى وفاء كانت ترى في زواجها من سومر "مجرد مزحة طريفة أفرزتها الحفلات الصاخبة" ص/81/.

هنا تظهر اللامبالاة واضحة في موقف الكولونيل كأب من قضية طلاق ابنته, على عكس موقف الأم ومحاولاتها الدؤوبة لتحقيق المصالحة بين وفاء وزوجها.‏

أما الشاب "نادر" الذي انتهى به الأمر بدخول السجن بسبب أفكاره وآماله بتحقيق مجتمع يخلو من التفاوت الطبقي فنجد أنه اقتنع بفكرة ضعف الفرد أمام تحديات الواقع المرير ملخصاً ذلك بأن "أياً كان لا يستطيع أن يكون دائماً كما يجب أن يكون",ونجد كذلك أن عمه لا يستطيع فعل شيء من أجله رغم توسلات أبويه.

وقد كان الكولونيل يستخدم مقولة "المشاكل الخاصة ماهي إلا تفرعات للمشاكل العامة" للتعبير عن مشكلة نادر.‏

- أما "عصام" أخو "نادر" وزوج "وفاء" فيما بعد, فقد أيقن بعد تجربة أخيه أنه ورفاقه «مجرد حالمين يحبون الحياة في حقل ألغام) ص/97/ لذلك انتهز فرصاً كثيرة منذ دراسته للحقوق وسكنه في بيت عمه, وعرف كيف يقيم علاقات, ويصل إلى ما يصبو إليه».‏

لم ينس الكاتب أن يرينا نموذجاً من الناس موجوداً في كل زمان وفي كل مكان تقريباً, وهم الناس الذين لم يتابعوا تحصيلهم العلمي, يجسدهم في الرواية أبو صالح صاحب العلاقات المتعددة ومالك المقهى الوحيد في القرية, والذي كان يعد أهل نادر بين فترة وأخرى بخروجه من السجن, والرجل الثاني هو مساعده برهوم.‏

وقد كان هذان الرجلان يريان أن المتعلمين شرور على أهلهم وغير أهلهم .

- نعود إلى شخصية الكولونيل "عماد" حيث يضعنا الكاتب ازاء تناقض مضحك من خلال نظرة إعجاب أهل القرية البسطاء لابن قريتهم ونظرته هو لنفسه, فهم يرون فيه شخصية خارقة, خاصة بعد أن نشر أخوه خبر جر قناة الري من الفرات إلى المنطقة المحيطة بالقرية لري الأرض المتشققة من العطش.

حتى أن قابلة القرية وهي لا تعرف القراءة والكتابة,«أقسمت وهي موضع ثقة, أنها رأت بمنامها عماد وهو يركب حصاناً أبيض ويعتمر تاجاً فريداً من الذهب ومعادن ثمينة آخرى لاتعرفها, ويقف على أهبة الطيران إلى أماكن عجيبة.»ص/42/.‏

لكن حزيران 1967 شطب أحلامهم,وأفسد أفراحهم ولوث رؤاهم بقسوة فظيعة جداً, فهم كانوا يعتقدون أن النصر مسألة محسومة, يؤخرها الروتين اللعين,كما يؤخر رسالة بسبب تقاعس مؤقت من هذا الموظف, أوكسل من قبل ذاك, مع اليقين الثابت بوصولها .

وهكذا لا القناة وصلت إلى القرية ولا النصر تحقق.‏

لم تخل الرواية من بعض الأحداث التي استطعنا أن نفسرها في سياق الرواية وعلاقات الشخصيات ببعضها, مع وجود أحداث أخرى اعتمدت على قراءة مابين الأسطر, وهنا ترك لنا الكاتب حرية التفسير, كاستدعاء الكولونيل والتحقيق معه وتوقيف "وفاء" لمدة يوم واحد, ومن ثم توسط جدها الحاج "عدنان", وانتحار الكولونيل وقبل ذلك عزمه على كتابة مذكراته والتردد في هذه المسألة.

"قرابين لمزارات بعيدة" هي رواية الخيبات والنكسات والانكسارات الكبيرة, فمعظم الشخصيات تعيش خيبة ما سواء على الصعيد الشخصي أو العام خيبة "نادر" ورفاقه وهي تمثل خيبة جيل بأكمله خيبة الكولونيل أمام نفس خيبة "وفاء".

لكن أكبر الخيبات وأشدها وقعاً هي خيبة أهل القرية في تحقيق النصر عام 1967 وخيبتهم في وصول قناة الري.‏

من فصل إلى آخر كنا ننتقل مع الكاتب, تشدنا متعة الكشف ومعرفة مصير شخصيات الرواية, وما ستؤول إليه الأحداث من خلال لغة بسيطة وتعابير جذلة وظفت جيداً, وعبرت عما أراده الكاتب.‏

عودة